**
لم يكن مجرد أخ ، بل كان أبي بعد وفاة أبي ، برغم أنَّ ما بيننا سبع سنوات فقط ، لم أحس بسور بيننا قط ، حتى تزوَّج ، وجاءتْ امرأة بيتنا ، امرأة في مثل سني ، يخرج إلي العمل ، وأبقي أنا أذاكر في البيت ، لم يغبْ عن بالي السور الذي وُلِد بيننا بعد زواجه ..
   كثيرًا ما يجلس أمامي وتذهب عيناه بعيدًا ، أحس بما يعانيه ، صراع بين ثقته فينا ، وبين سيطرة شك قاتل كثعبان يلتف على ضلوعه . أقرأ ما يعانيه ، ولا أقدر أنْ أفعل شيئًا ، أ أنفي له أم أكون كمن يقدِّم له الدليل علي ما يشك فيه ؟؟ 
   لابد أنَّه يخشى أنْ يكون تعليمي العالي دونه قد فتنها ، أنْ يكون السن المتقارب ، والتواجد الطويل معا ،وحسن تعاملي معها ، ثم استغراقي في التفكير في هذا الموضوع كلما رأيتُه مهموماً يظهرني مشغول البال ، كل هذا يظهرني له متغيرًا ...
    لا يملك أنْ يعاقبني ، ينتظر دليلاً ، بينما يستطيع أنْ يعاقبها دون دليل ، عندما يعاقبها علي جريمتها في نظره بأنْ لا يغفر لها أشياء صغيرة ، يفتعل شجاراً ، وأمامي أنْ أتدخَّل فيتأكد من دفاعي عنها من شيء في رأسه ، أو لا أحفل فيفسر أنَّني لا أفعل ما يجب أنْ يحدث لأبعد الشك عني ..
   أصبحتُ أحضر من الكلية فأمرُّ عليه أولاً ، كأني أوقِّع في دفتر الحضور ، ثم أعود إلي البيت ، وأنا أترقب أنَّه سيحضر بعد قليل، أترك الباب مفتوحاً ، وأجلس في مدخل البيت أضع أكلاً  أمامي وأبدأ في تناوله  ، بمجرد أنْ يحضر يفتعل حجة  .. ويأخذ شيئًا ثم يمضي  ..
  مرة أخري ، وجدني أصلي ، كنتُ دومًا أتعمد  أنْ أنهمك في شيء ، فالزوجة حسنة النية علي جهل تام بالمباراة الدائرة بيننا ، تعتبرني أخاها ، ولا تري ضررا أن تمزح معي ، أنْ تجري ورائي ، تقذفني بالمياه أمامه ، تدفعني بيدها ، تختبئ لتفزعني ، تضع لي في الشاي ملحًا .. أشياء لها تفسير آخر ..
  وكنتُ أثق أنني السبب في جفائه معها ، لذا لا أقدر أنْ أكون جافًا معها أنا أيضًا ، وبرغم أني أدري أنَّ هذا يزيد اعتقاده الوهمي إلا أني كنتُ أري أنَّها لا ذنب لها.. 
   فكرتُ كثيرًا أنْ أرحل ، حتى قبل أنْ تنتهي سنوات دراستي ، وخشيتُ أنْ يفسر ذلك بأني فهمتُ اكتشافه سرنا .. 
   عندما اشتد عليها في شيء تافه ، قذفتْها في وجهه  : أنَّه ليس حنونا مثلي ، وقتها صمتَ ، وكأنَّه عثر علي دليل ، ولم يفتني تأثير اللفظة عليه ، لكنَّه ابتلعها ، ولو كنتُ مكانه لبرأتها بيني وبين نفسي، فما كان لعاشقة أنْ تفضح سرها لزوجها ! 
   وزاد الطين بلة ، أنَّ الحياة بدأتْ تدب في بطن الزوجة ، كأنَّها لم يحلُ لها الحمل إلا هذه الأيام ، ماذا لو انتظرتْ قليلاً ، حتى تنتهي دراستي وأتركهما للأبد ، وأريح أخي ، أصبحتُ أتضايق من حضور وليده ، وقد كنتُ أترقبه لأردَّ له الجميل فيه ..
   عندما وضعتْ طفلًا ، رأيتُه يتملَّى بالنظر إلي الطفل ، يتصنَّع أنَّه سعيد به ، وهو يقرأ ملامحه ، ثم يختلس النظرات إليَّ ، لا أملك إلا السكوت ، أحسُ أنَّه يمهد لطلاقها ، عقاباً لها على جريمة يظنُّ أنَّها ارتكبتها ، والظاهر للناس أنَّه يطلقها لأنَّه ليس علي وفاق معها ، فالتناحر بينهما مستمر ، والجيران دومًا تسمع زعيقاً علي كل صغيرة أو كبيرة .. حتى صارت المسكينة لا تحتمل ، وتثور بدورها سريعًا ، لأنها لا تفهم شيئًا .. وهذا يساعده في مخططه الذي ينشده ليتخلص من شكه الذي يكاد يقتله ، أصبح الأمر مخيفًا ، وأصبحتُ كعاجز الحلم .. 
   أخشى أنْ أُظهِر حبي للطفل ، وأصد نفسي عنه ، رغم أني أحب الأطفال وخاصة ابنه الذي جاء جميلًا ، والحمقاء تداعب ابنها وتقول له اذهب إلي بابا "صفوت" ..وألعن في سري اسمي ، ولا أملك إلا افتعال الفتور ،وأدري أنَّه رجَّح ابتعادي ونفوري من طفلي كما يظن إلي ما يعرفه من ذكائي ، وأنَّها محاولة تضليل له  ليس أكثر.. 
  وبالفعل طلَّقها ، لكنه لم يطردها عن حياته ، بل رحل إلي حيث لا ندرى ، وترك لي ورقة تقول لي بأسى قاتل : 
ـ لم أستطع أنْ أفعل شيئًا لأنِّي أحبكَ ، وأحبها .. لهذا بعد تفكير طويل ، قررتُ  أنْ أرحل أنا عن حياتكما ..
                                             أخوك ...........
بحثت عنه طويلًا ، وكثيرًا ، لم أترك مكانًا إلا وذهبتُ إليه دون جدوى ، قدَّمتُ لها ورقة الطلاق ، وأخفيتُ أمر الخطاب .. 
    تزوَّجتها وأنا أبدو للناس كأني أعالج هرب أخي المفاجئ ، وأستر زوجة أخي وابنه ، وعاشتْ معي سعيدة ، اجتهد أنْ أعوِّضها كلَّ جفاء لاقته دون ذنب لها ، ولا أنسي أنَّها زوجته ، وأنَّ عليَّ أنْ أقدِّم لها قرابين تكفير كل يوم عن خطيئتي في حقه ،   وعاشت لا تدري إلا أنَّ أخي كان قاسيًا وأنا شديد الحنان ، لكنها كانتْ لا تقدر أنْ تتحدث عنه أبدًا بسوء ، فقد كانتْ تقف علي شدة حبي له وتدري أنَّ مجرد الحديث عنه بسوء يضايقني ، وكانت تجتهد أنْ تسعدني .. 
   أدري أنَّه تجسس أخبارنا ، وعلم باستقامة الحياة بيننا ، وأدرى أنَّه تأكد أنَّ ظنَّه فينا على صواب ،  ولعله راضٍ عما فعل ، ويدعو الله لي أنْ يغفر لي ، ويتمني لو كنتُ بريئا .
**






Share To: