يوم نكسة..
يقضي الأصدقاء الثلاثة، وبقية الصبية، جند اليأس، أوقاتهم صيفا حول المدرسة ، لعبا أو حربا. فموقعها فريد، فهي تطلُّ على الشارع الرئيسي الذي ترشُّه البلدية قبيل الغروب بصهريجين من الماء. جرار زراعي يجرُّ وراءه صهريجا له عجلات، وأنبوب مثقوب في الخلف بثقوب موزعة بانتظام يرشُّ الماء فتنتعش الأرض، وتسبُّح بحمد ربها وتستغفره، فتشيع رائحة التراب المغفور له، وقد بلّت صفحته الجافة بالماء، المدرسة مبنى ترابي قديم وعريق، كبير، وسقفه عال، له بابان، ، باب بدرج فخم للإدارة الموقرة، والاخر للتلاميذ.
غالبا ما يلعبون الكرة، بعد أن تخفَّ حركة الشباب في الشارع، فلهم واجب يومي مقدس هو السير عند الغروب، وقد استقرّت كرات كثيرة فوق السطح، بعضها ثمرة ركلات غاضبة، وبعضها عقابي. يغضب أحد اللاعبين من الفريق الخصم، ثم يختلفون حول الهدف، هذا هدف، بل ليس هدفا، إنها عارضة... فيحتدم المختصمان، ويغضب الغاضب منهم ويركل الكرة، فتستقر فوق السطح، ولأنه عال، لم يسبق لأحد أن اعتلاه. سطح بكر، إنه ذروة البيت المصمد، بَنَت طيورالخطّاف بين أعمدة وعوارض السقف أعشاشا عتيقة، تغيب في الشتاء وتعود في الصيف، وتزيّن الشارع بصفيرها، وهي طيور قصيرة السيقان، إذا سقطت على الأرض لم تستطع الطيران، طيور محكوم عليها بالطيران، ولا تحطُّ إلا في عشِّها، وتقتات من الحشرات الطائرة فوق البرك.
في المساء الصيفي يتحول الحي والمدرسة إلى نادٍ للموسيقى، هكذا رأت قيادة الدولة يلزمها روح وإنتشاء، بالحركة التصحيحية هي الأناشيد والشعارات، وتلاميذة المدرسة والحي هم فِي مُقَدِّمَةِ المنسقون الجدد. لم تكن الأناشيد وقتها مناسبة لأعمار الأولاد وأمزجتهم، وكانت الفرقة الصغيرة مكونة من ناقر دف شبه أعمى، وضارب طبل، ومشرفة الفرقة المنسقة الآنسة عبير، وبعض الموهوبات بالصوت الجميل، والحسناوات. وكنّ يحضرن ويتدربن على الغناء، فيغنين أغنية ".سيد الأسياد" كان مدير المدرسة وبقية المنسيقون يشرفون على الرقصات التي أطلق الصبية عليها اسم: رقصة الحية، لاحقا عرفوا أن اسمها هو الباليه، وكانت الباليه في أ ذهاننا رقصة شريفة
النوافذ عالية لا يطالها التجسس، والغرفة التي يغنون فيها داخلية لا تُطال، جدرانها سمكية، ماذا يفعل هؤلاء؟. لقد إحتجزوا بناتنا.
قال الصبي الضّلّيل مقترحا: سنعتلي السطح، اعتلاء السطح مواساة طيبة وديّة لهذه الهزائم.
أحسّوا بالعجز والهزيمة. الحزب سبا بناتنا الجميلة، ماذا سيفعل بهن؟
وماذا يفيد اعتلاء السطح؟
- المهم أن نفعل شيئا، سنرتاد سطح المدرسة.
- لا طاقة لنا به، فسلالم بيوتنا الواطئة التي لا ترتفع أكثر من ثلاثة أو أربعة أمتار لا تبلغها، فما العمل؟
- قال عمر: أتحداكم. سأصعد السطح.
- مستحيل، لا أجنحة لك أيها الأحدب.
خلع خفافته البلاستكية، وأخرج قدمه الغارقة في العرق، وبدأ تسلق عمود الكهرباء المعدني، وهو سهل التسلق فيه أضلاع متشابكة، لكنّ العمود يبعد مترا ونصف عن السطح الترابي، ارتفع الصبي إلى أن صار موازيا للسطح، ثم وثب إلى عمود الهاتف الخشبي القريب من السطح، والذي يبعد عنه مترا أو أقل، صار الصبي على العمود الذي تملأه شظايا خشبية من أثر تسلق رجال مصلحة الهاتف العمود مرات، بمهاميز قوسية شائكة، ثم قفز على السطح، فصار فوقه، وصاح صيحة النصر، وأخرج لنا لسانه الطويل.
كانت مغامرة حقيقية.
لحق به الصبية متتابعين، واحدا تلو الآخر، إلا الصبي عاد إبن المديرفقد كان قليل المغامرة.
صاروا جميعا فوق السطح، قريبين من النجوم، وطيورالخطّاف تأوي إلى أوكارها. وقعوا على كنوز صغيرة، فالسطح يحفل بالكرات الصغيرة والكبيرة، التي كان العلو يمنعها، إنها ثروة حقيقية. هذه المدرسة كنوز من الجميلات في داخلها، وكنوز من الألعاب على سطحها.
جمعوها وتقاسموها، لمحوا بعضا من مشاهد المنسيقات وهنّ يرقصن مع لجان الحزب على أنغام الموسيقى، ماذا يجري يا معشر الصبيان، الإ شتراكيةعلى أشدّها، هذه حرية رسمية.
قال عمر: لا تبالغ، هذه رقصات وحسب، ليس في الأمر شراكة، فالشراكة هو أن يدخل الميل في المكحلة.
قال قرمجي: الرقصة نصفٌ شراكة، ربع شراكة، دون شراكة بقليل، لم يسبق لنا أن رقصنا سوى مع ظلالنا.
كان مدير المدرسة ورفاق الحزب يشرفون على الرقصات التي أطلق عليها الصبية عليها اسم: رقصة الحية، لاحقا عرفوا أن اسمها هو التعبير الجسماني، وكانت رقصة شريفة، أماالرقص الشرقي رخّص حراما. رأوا أن هذه الفتوى غير صحيحة، فرقصة الحية رقصة زوجية غالبا، وتثير أكثر من الرقص الشرقي الفردي. كانوا يمسكون بالراقصات اللاتي يرتدين أغشية شفافة لاصقة بالجلد، مثل جلد الحية، فيظهرن كأنهن عاريات، ثم يطوون الراقصات مثل الكمنجة على أكتافهم، ثم يفتحونهم مثل المراوح، وينشرونهم نشرا، وأحيانا يجري أحد أفراد اللجان تجارب توضيحية مع الآنسة عبير.. همس عمر مدهوشا: ما هذا أيها الأصدقاء.
قلت: إنهم يناضلون.
قال: أهذه هي أهداف الحزب؟
قال عدنان: عائشةهي الوحدة، وعروسية هي الحرية، وعتيقة هي الاشتراكية.
همسنا مثل الجوقة وقد تلاقت أهدافنا مع أهداف الحزب: وحدة، حرية، اشتراكية.
هذه هي أهدافنا أيضا.
فيما بعد كان التلاميذ يرددون كل صباح النشيد الوطني، ويهتفون في المدى: وحدة، حرية، اشتراكية.
وكان الثلاثة يهتفون هتافا آخر، فيضيع صوتهم بين الأصوات عائشة، عروسية ، عتيقة.
عرف الأصدقاء الثلاثة المدرسة التكعيبية قبل أن يعرفها بيكاسو، فهموا سبب احتفاء الحزب بالمناضلات، الحزب يحب الكواعب التكعيبية .
انتهت الحفلة، وذهبت سكرة الفوز بالقمة، وجاءت الفكرة: كيف ننزل أيها الليوث الضراغم؟
لم يجرؤ أحد على النزول، النزول يقتضي أن يثب الصبي من السطح على عمود الهاتف الخشبي، المشوّك بالشظايا التي صنعتها مهاميز عمال الهاتف. الوثب صعب، من سطح حر إلى عمود، ويحتاج إلى مهارة قرد، والنزول أصعب، وعليه أن ينتقل أيضا إلى العمود المعدني. يئسوا من أن تنبت لهم أجنحة وريش، ثم قنطوا، فطلبوا من الصبية في الأسفل: اطلبوا لنا النجدة. فقال عاد قولته المشهورة: "دخول الحمام مش كخروجه "
فسألته : ماذا تقصد بهذاالكلام ؟ كان رده بصوت خافت " : إسأ ل أ مك .! "
جاء الآباء مسرعين للنجدة، شتموا الأولاد الذين أفسدوا عليهم السهر، وفكروا ماذا هم فاعلون. اقترح أحدهم وصل سلّمين أو ثلاثة من سلالمهم الخشبية في دُروهم. فأحضروها وجبّروها بالمسامير والأسلاك المعدنية كما تجبر العظام المكسورة، ليواطئوا عدة ما حرّمت الحكومة. كان السلّم يترنح من الطول، والجبائر ضعيفة، والأولاد خائفين من النزول، ليس خوفا من السقوط وإنما من الآباء والأمهات الذين اجتمعوا في الأسفل غاضبين. هددوهم انزلوا يا كلاب... سترون العاقبة، لنرينّكم نجوم الظهر، ستندمون على اليوم الذي ولدتم فيه، ستستنجدون بالعفاريت الزرق.
بادر عمر أولهم صعودا إلى النزول، وبلغ الأرض، وتتابع الأولاد في النزول بسلام، صاروا جميعا على الأرض.
بدأ الآباء الماكرون بالعقاب، فخلعوا الأحزمة و وانهالوا على الصبية ضربا.
هذا يوم نكسة.
أمضى فحول الحزب الأوقات السعيدة مع حسناوات النضال التكعيبي ، ودروس المدرسة الاشتراكية، وقضوا الأوطار، ونال الصبية العقاب والعار.
بقي الصبي وحده فوق السطح. لم يكن خائفا من العقوبة، كان خجلا، فالتجسس عيب حتى لو كان على الحكومة. . ذهب الجميع، بقي وحده تحت النجوم يستعيد مشاهد الرقص مع الحيات، وملاحم الالتحام التي حمي فيها الوطيس، وردِّ العجز على الصدر، ظلّ يمضغ مشاهد البنات شبه العاريات، عائشة، عروسية ، عتيقة.، عربية، وعهد الكواعب وهنّ يرقصن، ويضربن الدفوف، ومدير المدرسة يرفع عهد، الراقصة الحية على ركبته، ثم يرفعها إلى كتفه مثل الكمنجة، ويعزف عليها. حاول تقليد رقصة الحية تحت ضوء القمر، حتى كاد أن يسقط شهيدا. تعب فتمدد على الطين اليابس مثخنا بالجراح.حتى أقبل والده باحثا عنه وجده بصوت شخيره...عند العودة سأل الصبي أمه ذات السؤال : ما معنى "دخول الحمام مش كخروجه ".!وإذا بوالده يقفز من فوق السرير نازلا عليه ضربا ولطما حتى أوجعه ...بعدها بمدة حدث أصدقاءه عن أصل المثل ،حيث إفتتح الأشخاص حماما تركيا ،وأعلن بأن دخول الحمام مجانا, و عند خروج الزبائن من الحمام كان صاحب الحمام يقوم بحجز ملابسهم, و يرفض تسليمها من دون مقابل مالي, و الزبائن يحتجون على ذلك بأنه قد أخبرهم بأنه مجاني, فيرد عليهم و يقول: دخول خول الحمام مش كخروجه... وهكذا كان يحدث نفسه وأترابه كلما أقبل مساء الصيف...
إجتمع الأصقاء وتدلّت النجوم، نجمة نجمة.
قفزت نجوم لها زعانف ضوئية في لجة بحيرة السماء الداكنة.
عبر دولفين مثل الشهاب وضاع تحت لحاف السماء.
غلبهم النوم فغرقوا بين النجوم.
Post A Comment: