كنت اختطف النظر إليه من بعيد ، و أنا متسمر أمام مخرج المدرسة أنتظر مجيئه ،  كان جد سعيد ، و هو يسترق النظر إلَي و أنا  أنتظره ، و المحفظة تلتصق بظهري ، كان مدفون كالعادة وسط بدلته الرمادية  الأنيقة ، بشعر كثيف بدأ يلمقه الشيب ، و عيون سوداء يلتصق بهم شيء من الاحمرار ، و ذقن محلوق على أخيره .
كانت دواخله تفيض فرحا ، و هو يراني في وضعية التعلم ، تسارعت خطواته نحوي ، و عانقني دون مقدمات كأنه يحاول أن يمنحني جرعة من الحب قبل أن نذهب ،  أمسك بيدي و السعادة تشل كياني ، و أومأ لي برأسه :  هيا . 
بدأنا نخطو بخطوات ثقيلة بتجاه السيارة ، و نحن نتجاذب أطراف الحوار ، و هو يسألني عن مجريات يومي الدراسي ، و قبل أمتار قليلة من الوصول إلى السيارة  ، لفت انتباهه بائع الجرائد ، فتذكر أنه لم يقرأ بعد جريدته لهذا اليوم.
فتوجه  للاقتناء وجبته اليومية من جريدة الصباح . 
فحيا بائع الجرائد قائلا : السلام عليكم يا عم كيف الحال . 
فرد بائع الجرائد و الابتسامة ترتسم على ملامحه : عليكم السلام ، الحمد لله ، يا ابني لاباس لاباس. 
فرد أبي قائلا : الحمد لله ، الحمد لله ، ناولني جريدتي المفضلة . 
فقهقه العم مدركا ما أراد أبي من جريدة . 
فناوله جريدة الصباح ، فأمسكها و سدد له ثمنها و أنا أتابع مجريات العملية ، ففتح أبي الجريدة  ليأخذ نظرة خاطفة على عناوين مجريات الأحداث في الصفحة الأولى ، و الاطلاع على العنوان الرئيسي .
فقرأه بشيء من العنف و بصوت مسموع .
قضايا الطلاق تشل جسم محاكم الأسرة .
كنت أتدبر أبي و شيء من الفزع يلون محياه فتناثرت الكلمات من بين شفتي متسائلا على مضمون العنوان .
فرد قائلا : حالات الطلاق بين الأزواج تعرف ارتفاعا مهولا .
ارتشفت طعم كلماته بصعوبة ، و زخم من الأفكار يدق ذهني ، و لكن لماذا يتطلقوا بعد أن يتزوجوا ، و الكثير من الأسئلة تجول ذهني ، و على أبي شيء من الإبهام ،و بوادر عدم رغبة مناقشة الموضوع بارزة على محياه  .
حاولت كتم كل تلك الأصوات التي تحوم في مخيلتي دون القدرة على ذلك  .
فاستجمعت قواي ، و رتبت كلماتي كاسرا ذلك الحاجز من الصمت الذي اغتال الموقف ، و أنا أتساءل عن مضمون العنوان .
فتفوهت قائلا : 
لكن أبي ، تحركت عيونه بطريقة جنونية  كأنها تريد أن تخرج من مكانها و هو يتوقع السؤال .
لماذا كل هذه الحالات من الطلاق ، ياك  هما تزوجوا من أجل البقاء معا حتى النهاية.  
ترقبني بشيء من الحيرة كأن الموضوع معقد و شاسع. 
فأومأ لي برأسه نحو السيارة .
فركبنا السيارة و ظننته سوف يتغاضى عن الجواب ، فوضع الجريدة أمام الواقية الأمامية للسيارة ، و أدار  بجسمه نحوي ، و أنا أشعر به يرتب كلماته من أجل الخوض في الجواب . 
الأمور معقدة و كثيرة يا ابني. 
حتى من هم تحث سقف الزوجية للحد الآن لديهم مشاكل ،  و انكسارات ، و أحلام لم تلامس الواقع  . 
ثم صمت بضع ثواني  و تنهد و أضاف بشكل أكثر جدية . 
هل تظن أن من السهل الجمع بين روحين تحث سقف واحد ، و كل طرف ترعرع في طبائع حياتية مختلفة شيئا ما عن الآخر ، و خلق نمط حياة أكثر سعادة كما يتصوره العشاق  الأكثر اندفاعا نحو بعضهم .
لوح برأسه في السماء يمينا و شمالا ، مجيبا : لا و أتمم قائلا : 
روتين الأيام و الظروف في كثير من  الأحيان تكون أكبر من الطرفين  ، و أشد قساوة  ؛ مما يجعل لهفة البداية و كل التصورات الوردية تنمحي ، و تضمحل يوما بعد يوم ؛ لتتمخض عنها تصورات أخرى تلامس الواقع و تفرضها الحياة ، و أحيانا تكون أكثر وحشية في وجه الطرفين . 
 الأمر يا ابني  يحتاج لشيء من التلاحم ، و الانصهار في ذات واحدة للمواجهة كل الظروف و العقبات ، و الصبر عند الشدائد شيء لا غنى عنه . 
الأمر ليس بالهين و يتطلب الكثير من التضحيات ، و الفطنة من الطرفين لخلق شكل من الأشكال الحياة تسمح بالانصهار في ذات واحدة ، تتغاضى عن كل الهفوات الذات الأخرى كأنها هفواتها . 
حركت رأسي بالإيجاب نعم نعم مفهوم  ، فأوماني بابتسامة ، و بدأ سؤال أخر يتمخض داخل ذهني محدثا ضجيج كأني في الحاجة للإجابة عليه هو الأخر .
التفت نحوه و هو يحاول إدارة مفتاح لتشغيل السيارة، و أنا أحاول أن أسأله عن  سر استمراره مع ماما إلى حد الآن .
استشعر رغبتي في الحديث ،  و أنا أنظر إليه فأردف قائلا متخليا عن تشغيل السيارة كأنه قرأ  أفكاري و بماذا أفكر .
وأجاب قائلا و هو يبتسم ابتسامة بريئة  كالطفل : لأني أحبها ، لأني أحبها .
فأردفت بصوت خافت لكن كل  الأزواج  تقريبا يتزوجون بدافع الحب .
انتابته الرغبة في مقاطعتي من أجل الإجابة قبل أن أتمم لكنه فضل سماعي حتى أخر كلمة ، بادئا الإجابة انطلاقا من كلمتي الأخيرة قائلا بشكل كوميدي : 
لأني أروق لها ، لأنها تروق لي . 
ماماك هي تلك الروح التي اندفعت نحوها بكل عواطفي و منحتني إياها الحياة ، هي تلك الزهرة التي انتظرت كثيرا حتى أقطفها  ، هي ذلك الشيء الذي يتجدد مذاقه إلى أشد حلاوة كلما انغمست به أكثر  فأكثر ، و تستطيع أن تسير نحوه و أنت  متأكد عند كل هفوة أو انكسار أن شيء ما أشد جمال و لطفا مما يحدث يوجد في الأفق .
 أمك هي تلك الجوهرة التي كنت دوما أتوق إليها و أنا لا شيء ، كنت بعيد كل البعد و لا شيء يربطني بها حتى في الأفكار حتى في الخيال ...كنت أتوق إليها و هي كالنجمة في السماء تغرق وسط ظلمة ذلك الفضاء الفسيح ، ظللت أتوق إليها عندما  اختفت على مرأى ، كانت كل شيء بالنسبة لي  حتى و هي غائبة ، و كيف لي أن أدعها تذهب و هي بين أحضاني الآن .  
ظللت أسمعه حتى النهاية و هو يتحدث بشكل لم أعهده و بريق عيونه يتحدث حبا ساحرا ، دون الحاجة لتوقف عند مضمون كلماته . 
ليفتح دراعيه عند أخر كلمة لفظها ، و يسحبني من المقعد نحو صدره ليعانقني ، و يوشوش في أذني بصوت خافت : 
لا تخاف سوف أذهب نحوها زحفا حتى و إن تورمت قدماي .






Share To: