زرت دروب المدينة ،استحضرت كل الذكريات ،وكل المآسي . حياتي الضائعة ،أيامي التي لن تعود ،أيام عشتها لغيري . أيام كنت فيها فقط آلة تستخدم. حزنت .
يحزنني كوني لم أعشها ،ولم أغير فيها ما يجب ان يغير ، ظللت نائما ،مهملا لحياتي. لم يكن يهمني الغد ،ولا الزمن القادم ،ولا أنا . كنت أعيش ،ولا أعيش . كنت على حافة الحياة والموت ،حي بجسد فقط ،لم يكن يربطني بالحياة ،سوى خفقان قلبي،ميت على قيد الحياة . لست وحدي ،الكثير هم اموات على قيد الحياة . أواسيني بالذين يشبهونني . لو كنت وحدي ميت على قيد الحياة ،لربما افنيت هذا الجسد .
أستمد قوتي من الآخرين ،من التجارب المريرة التي عاشها غيري ، نحن نتشابه في الكثير ،وفي الآن نفسه ،الكل لا يشبه الآخر . الإنسان يميزه تفرده ،وليس هناك اي واحد مثل الآخر .
أجلس بعيدا عن المدينة ،بعيدا عن الضوضاء ،عن المقاهي المكتظة بالمدخنين للحشيش، وللسجائر الرخيصة . أمامي اطفال صغار ،يلعبون ،يرقصون ،يضحكون ،يصارعون بعضهم البعض .كلاهما يريد ان يغلب الآخر . سمعت لأحدهم يقول للآخر :
-أمي تصارع أبي كل يوم وتغلبه . وأحيانا يتركها تغلبه ،كي يظهر لها أنها قوية .
اصحيح هذا الحب يوجد بمنازل هذه المدينة المسحوقة !!
ماذا سيخسر الإنسان اذا أحب الجميع ؟
لا شيء ، لو كنا نحب بعضنا لكان العالم افضل.لكن كيف سيكون هذا الحب ونحن لا نحب حتى أنفسنا ؟؟
لن يكون حبا حقيقيا ، سيكون نفاقا ،لصيد الآخر واستغلاله ،وأخذ منه ما نريده .الذي لا يحب نفسه ، لا يمكن ان يحب الآخرين .هذا ما قرأته يوما .
الشمس وصلت الى كبد السماء ،شمس مشرقة ،باردة ،تمنح لي دفئا ، وقوة لمواجهة هذا البؤس ،المنتشر حولي .ستغيب ،كما تغيب دوما . وأنا ،الى اين سأغيب ؟
اين أقضي ما تبقى من النهار !
أضيع في اللامكان ،وفي هذا الحياة التي تستعصي على الفهم . كل اماكن المدينة ،زرتها اكثر من مرة . الآن أراها قذرة . لكن الجلوس في الغرفة ،وإغلاق النوافذ اكثر قذارة . العالم صار اكثر فظاعة ، يحتاج منا الى قوة رهيبة لمواجهته . إنني اواجه اللاشيء ،منذ أمد .
كنت متجها للرصيف الآخر ،غير مبال بالسيارات ،ولا بالذاب البشري . حينما وصلت لوسط الطريق ،سمعت زعيقا متواصلا ،سيارة كبيرة ،داخلها ،انسان على مشارف الستين ، دهشت . لم اعتذر له ،واصلت سيري ، اوقف السيارة ،ترجل ،اشار لي بيده ،حدقت فيه ،قال لي :
-كنت غنقتلك اولدي . (كنت على وشك ان اقتلك يا ابني "
لم اكترث له ،كل شيء يبدو لي صعبا ،قذرا.لا يستحق ،منذ امد وأنا صائم عن الكلام . قديما ،كنت افسر وأوضح ،للناس ،اخبرهم بما يضرني . لكنني لم اجد أذنا صاغية . تأكدت ان كل الذين اشكو لهم ،ينصتون لي ،فقط للعطف علي ،لا أكثر .
صرت غير مبال ،من زرع بي هذه اللامبالاة ! .حينما كنت صغيرا ،كنت إنسانا يهتم بتفاصيل حياته ،وتفاصيل حياة أناس الآخرين ،كنت اعرف اشياء عن الناس ،لا يعرفونها عن أنفسهم .
-ماذا تغير !!
-لا أعرف .
في صغري ،كنت أوبخ كثيرا ،كنت افحص افعالي مئات المرات ، كي لا أخطئ ،عائلتي تعتبر الخطأ جريمة ، ان تخطئ ،يعني ان تصفع وتركل كثيرا .
هيجل قال في زمنه :الشر طريق للوصول الى الخير .
الرسول صلى الله عليه وسلم قال :"كل ابن آدم خطاء "
صفعت وركلت مئات المرات ، نموت عليلا ،لم أحظ بحضن دافئ ، حملوني المسؤولية صغيرا ،قبل ان ابلغ.
مشيت ببطء ،اصبت بالحيرة ،واللاجدوى ،غم كبير في داخلي ،دخلت الى مقهى قريبة وجلست ، ظللت أحدق في التلفاز . طفل صغير يشكو من فقدان أمه .
الحزن لا يمكن أن ينتهي ،كل الناس يعانون ،لهم أحزان مختلفة ،تجعل مواصلة العيش غير محتملة .لي أحزان كثيرة ،لم أستول عليها ،هناك آلام ،تأتي -بغتة-بدون سبب ،تمزقني .
أرى الحياة لعبة منهكة .
وقف النادل قدامي ،تبسم في وجهي ،كنت مغتاظا. قال لي متسائلا :
-أتريد شيئا ؟
-نعم ،أريد من يخلصني من هذه الأحزان .
Post A Comment: