كل شئ في المدينة يبحث عن ملجأ، أعمدة الإنارة والأرصفة والأزقة والشوارع والناس، الجميع يهرولون إلى المجهول، الظلام سيد الموقف والخوف يدب من كل جانب، لا شئ يبعث الامان غير إبتسامة طفلاً تائه بين الجموع، ينظر إلى الجميع باندهاش، يشاهد تراجيديا الألم وكأنه يعبر عن كيفية خلق القهر والخوف، إن طفولته لم تسمح له بالهلع رغم الدم الذي يسيل تحت أقدامه، يمر من جانبه شباب يحملون أرواحهم بين أيديهم وبعضاً من اشلائهم، يمد يده لعجوز تحاول أن تغطي صدرها المكشوف بسبب تمزق ثوبها القديم، تسقط عليه دمعة شابٌ ملطخ بالدم وبعض الجروح، يحاول الطفل أن يمشي عكس إتجاه الحشد لكنه يتعثر، ينهض مرة أخرى ويحاول شق الصفوف، الجميع يليذون بالفرار، لم يتبقى سوى الأشلاء والدم والجريمة وأحلام تحت الأنقاض، يتذكر الطفل ذو السنة الخامسة والديه، ينظر يميناً ويساراً لكنه لم يجدهم، يتذكر شقيقه الرضيع لكن لا يوجد أمامه سوى الفقد، أصبح الشارع خالي من الناس وملئ بالإنسانية المهدورة، أشلاء مبعثرة ورؤوس بشرية متطايرة، وأقدام مكدسة، وبعض القلوب مازالت تنبض والموت يحاصرها من كل جانب، الطفل يحوم حول الجثث والسماء تبدلت بالغيوم ليصدح صوت الرعد مبشرا بقدوم دموع سماوية تؤاسي الأرواح الصاعدة نحو الأعلى.
يصرخ الطفل بوحشية، يهرول بين الجثث المنتشرة في الشارع، يفتش عن والدته، ينظر إلى الخلف لعلها تذكرته وعادت نحوه، لكنه لا يرى سوى الأدخنة والضباب الأسود المتصاعد من حوله، ينادي والديه، ولا يلاقي سوى الصمت والوحشة، يحاول أن يتذكر علامة تميز والدته، لقد كانت تحمل شقيقة وبعض المجلات والصحف وكتاب سمع والدته تتحدث عنه إسمه رواية زوربا، تحرك يميناً بتجاه أشلاء النساء، نظر إلى الأمام ورأى لحاف شقيقة، هرول ناحيته لكنه لم يجده، وفجأة نظر إلى امرأة يسيل من ظهرها الدم وقد أصبح ظهرها مثل البركان الثائر، الأمعاء في الخارج وجميع مكونات الإنسان الداخلية، ذهب إلى جانبها وتفحصها جيداً، لقد كانت حاضنة لطفلها الصغير ومازال يرضع منها، صرخ الطفل وكب على وجهها الذي تحول لونه إلى الأسود وبدأ يبكي برعب وقهر، أنها والدته قد فارقت الحياة وانقذت طفلها الرضيع، تبعثر جسدها لكنها لم تستطع أن تترك ولدها الصغير للموت، تجمع الناس وأخذوا الطفل وشقيقه، لقد كان الرضيع يبكي لأنه لم يشبع من حليب والدته، لا يعلم بأن تلك اللحظة هي الأخيرة بصحبة حضنه وحنانه، أما الطفل الأكبر سناً فقد دخل في غيبوبة حتى اليوم الآخر، ليشاهد في صالة مستشفى إحدى محطات الأخبار وهي تبث شريط عاجل ينص على (تنظيم القاعدة الإسلامي يتبنى التفجير الإرهابي الذي أصاب قلب العاصمة ويؤكد بأنه سوف يقوي ضرباته التالية إذا استمرت الحكومة على الحكم بغير ما أنزل الله). لقد قتلوا الإنسان من أجل الله، هكذا يعتقدون بأنهم يدافعون عن الدين الصحيح بقتل الإنسان البرئ، قال أحد الأطباء : لم يرسل الله الرسل من أجل نفسه بل من أجل الإنسان، لقد أختلف أبو جهل مع النبي حول وضع بلال وليس حول الآلهة، لقد وافقوا كبار قريش على الإيمان بمحمد بشرط أن يظل العبد عبد والسيد سيد، لكنه لم يوافق لأنه نبي الإنسانية قبل أن يكون نبي الكهنوتية، أن الإنسان هم الله الأول والأخير، لا يريد منا عبادته بقدر ما يريد منا أن نكون أناس صالحين نمتلك من القيم الإنسانية ما يجعلنا نحب الآخر ولو كان على دين آخر فحساب الآخرة على الله وليس الإنسان، أنظروا إلى هؤلاء الأطفال، لقد فقدوا والديهم مقابل أفكار لا تمت إلى الأديان بصلة، هل تفكرون بأن الله يريد منا أن نقتل الآخر من أجله، لقد جعلوه وحش لا يحب إلا القتل وزهق الأرواح، لكنه في الحقيقة لا يحب سوى الحب والإنسانية والقيم العميقة الناتجة من الوعي والفكر والعمل والإخلاص والأمانة، لم يكن يوماً هذا الإله الذي نعبده إرهابي حتى نملئ اسلحتنا رصاص ومتفجرات ونقاتل من أجله، اذهبوا إلى أماكن عملكم، وعبدوا الله بحب وتصوف، حتى الإبتسامة عبادة وصلاة، والأمانة عبادة وصلاة، وإنقاذ مريض عبادة وطواف، اذهبوا وكونوا عباد لله الرحيم فقد سلبوا منا حتى الحب والحياة، وانهى حديثه ليسقط صريعاً على الأرض مقتولاً من قبل أحد المتطرفين المقنعين، لم يقتنع المتطرف بقتل الطبيب رسول الله لإنقاذ الحياة بل قتل من كانوا بجانبه جميعاً، حتى الطفل وشقيقه غادروا الحياة ليلحقوا بوالديهم بفارق يوماً واحد عن موعد رحيلهم.
Post A Comment: