الكاتب المغربي إلياس الخطابي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "التيه" 


جالس وحدي ، في زاوية المقهى التي اعتدت الجلوس فيها .استيقظت غاضبا .- ليلة أمس ، لم أنم جيدا ،غادرت السرير بصعوبة ،بدون رغبة -. أيامي تتشابه . سنة جديدة بدأت ،الأيام تمر سراعا . لم أتحرك بعد . لم أخطط ما أفعل في هذه السنة . كل ما أفكر به ،أعجز عن تحقيقه ،أفشل باستمرار ،وكأنني لم أخلق لشيء سوى للفشل .كل التجارب الإنسانية فيها فشل ونجاح . الحياة ليست عادلة ،لكن مع مرور الزمن ،تنصفنا قليلا،لنفرح ،ولنغير نظرتنا اتجاه الوجود ، ولتكون الحياة ايضا ،محتملة وممكنة . 

لكن لا أعرف متى سيأتي دوري ؟ 

لقد تعبت من الصبر ،  والمقاومة . 

انتظرت كثيرا . لا شيء يقتل سوى الانتظار الطويل ،أنهكني كثيرا ،ومزقني . أربي الأمل كل يوم ،وأواجه بؤس العالم باللاشيء . 

اكاد أن اصير مدمرا ،كل شيء ضدي ،وأنا عاجز عن التحدي . 

في المقهى بؤساء كثر مثلي ، أحلامهم أجهضها الزمن . استسلموا للواقع ،ويتعايشون معه . لا يكترثون ،ولا ينتظرون الحياة أن تنصفهم .الوطن يهتم فقط بالأثرياء ،يزيد لهم غنى ،والفقير يهمشه ،ويزيد له فقرا . 
فقدوا الثقة في الجميع ،ما عدا أنفسهم . 

يا له من وطن !
وطن لا نملك فيه شيء . 
نحن فيه غرباء . 

لا أريد ان استسلم للواقع . أرفضه باستمرار ،لا أريد أن اعيش ما تبقى من الأيام ، حياة لا أرغب فيها . لا يمكن أن نعيش كما نريد ،ولا يمكن ان نعيش أيامنا كلها ،هناك أيام تمر ،لا نفعل فيها شيئا ،سوى النظر من بعيد .الحياة معقدة ،والواقع بائس ،لا يبشر بالخير إطلاقا . 

علبة الرسائل فارغة ،لم يهنئني أحد بدخول السنة الجديدة  ، لم يعبر لي أحد حبه اتجاهي ، ولا أحد يتمنى علاقتنا تطول . أصبحت مصدر بؤس . الذين أعرف يفرون مني تباعا .أنهكهم الانتظار . لم استطع النهوض ،وأصير كما يريدون ،ولا كما أريد .قوة خفية تمنعني لفعل اي شيء. 

دخل شيخ هرم للمقهى ،حدق في الجميع . وصل الى ما حيث أجلس وجلس . تثاءب ،بدا لي فمه أدرد ،كمؤخرة دجاجة . ربما استيقظ وأتى للمقهى .وربما أيضا عافه الزمن ،وعاف نفسه أيضا .وربما ماتت زوجته ،او لم تعد تتحمل جنونه ،وأفعاله الصبيانية ،وجهه عبوس ،أراه جثة هامدة ، لا ينتظر شيئا ،سوى الموت .
رشفت من قهوتي ،لم أكلمه ،ولم يكلمني . احترم صمتي ،أو خاف مني. لا أعرف . نظراتي ساخطة ،كأن عيناي تقولان له :
-الزم حدودك ،لا تكلمني فيما لا يعنيك ،كي لا تسمع ما لا يرضيك . 

تركته جالسا . نهضت ،أديت ثمن ما شربت وخرجت. كآبة سيطرت علي ، لم أعرف أين أذهب . سرت في الشارع بدون وجهة . قلبي يخفق بعنف ، بداخلي شيء ما يغلي . لا أملك شيئا لأواجه به نفسي . أعيش الألم كما أعيش الحزن.
ظللت أتسكع في المدينة ،في دروبها القديمة .في كل زقاق أتذكر طفولتي ،طفولتي البائسة التي لم أعشها ، طفولتي التي سرقت مني . لي حنين غريب إلى الطفولة ،لا أعرف كيف أفسره ،الطفولة لا يمكن أن نتخلص منها ،تبقى في الذاكرة . وتترك أثرا عميقا في حياة كل إنسان. 

تسكت وتسكعت حتى تعبت ، دخلت الى مقهى قريبة ،شربت كأسان من الماء وخرجت . رأسي على وشك الإنفجار ،وجع في الجهة اليسرى ،اضغط على رأسي بأصابعي كي يخف الألم ،لكنه لا يخف ،الألم كان أقوى .
نسيت الألم ،وربما تنسايت ، النسيان شيء ،والتناسي شيء . 

التقيت محمد في ساحة المدينة ،صافحني ظل يحدق في الذباب اليشري بنظرات ساخطة . كل الفتيات اللاتي يمرن قدامنا ،يحدثهن بلطافة ،لم تتوقف عنده اي واحدة . سب العالم وحبيبته التي تركته مؤخرا .
جلسنا قليلا ،تكلمنا في الكثير. بعد ان حل الظلام ،نهضنا وتمشينا ببطء . حينما افترقنا ،قال لي :
-كونديرا كان محقا ، حينما قال :الحياة مزحة ثقيلة .






Share To: