ريفيو بقلم ذ. رشيد المجنيوي لقصة "فيضان النهر" المنتمية إلى المجموعة القصصية "إلى مهلكتي"


من خلال عنوان النص الذي بين أيدينا قصد النقد والتحليل نستشعر أن هناك خطب جلل قد حل، هذا ما يستدعينا بدافع الفضول والاهتمام أن نُقدم على قراءة النص بنهم وباسترسال حتى نكتشف ما الذي حدث بالفعل. إن تقنية الإغراء وشد الانتباه من خلال العنوان هو دأب العديد من المبدعين.
وأنا أخوض في أعماق النص وأسبح بين وقائعه، استنتجت أن حتى في اختيار العنوان قد نجد لمسة من براءة ذلك الطفل، الذي هو الراوي الآن والشاهد آنذاك، الذي يسرد لنا ما رأى بأم عينيه وما خبره بنفسه من أحداث بدافع الإفصاح عن ما دسه في خاطره والبوح به، ورفع الستار عما خزّنه في ذاكرته وتقاسمه مع غيره " أتذكر تلك الليلة وكأنها البارحة "، أعود لأقول إن انعكاس البراءة وصفاء السريرة يتجلى في اختيار لفظة النهر بدل الوادي، هذا لأنه طالما  كان النهر للطفل وأقرانه مسبحهم  الصغير وتربطهم فيه ذكريات جميلة، ولأن النهر غالبا ما يرتبط بالخير والخصوبة، ثم إن النهر قد تكرر ذكره في الذكر الحكيم  على أنه من نعم الجنة كما جاء في قوله عز وجل ﷽ : ﴿مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍۢ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍۢ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍۢ لَّذَّةٍۢ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍۢ مُّصَفًّی﴾.
عكس الوادي الذي ذكر أيضا في مواطن عدة من القرآن وارتبط بالعذاب في جهنم كوادي الغي، وادي الويل، وادي سقر …
كذلك بعض الأدباء والمبدعين  تناولوا كلمة الوادي في عناوين أعمالهم وإبداعاتهم وقرنوها باللؤم والشؤم، مثل "وادي الدماء " لعبد المجيد بن جلون ، " وادي الذئاب " لأحمد طورغوت، "وادي الموت" لتومي كوفانين…
لقد وظف القاص  مقياس الأنسنة في السرد، حيث أنسن الجمادات  الغير العاقلة فأصبح لها كما للبشر إدراكا وإحساسا، إذ جعل القمر شاهدا ويشاهد وصيّر النهر يهدد ويتوعد.
وهذا ما تنبني عليه القصة القصيرة في مجملها السردي من فنيات إبداعية وتقنيات أخرى كالترميز والإيحاء، الاستعارة والتشخيص ...
حتی إن الطفل قد تفاعل مع هذه الظواهر الطبيعية حيث راقب القمر وقدَّر فعله كما فكر في ضرب النهر وشتمه بل مجافاته لأنه قد أحزن أمه، مصدر الأمن والأمان ورمز الحب والحنان.
النص سلط الضوء علی شريحة من المجتمع تعيش علی الهامش وفي هشاشة، تفتقد أدنی ضروريات الحياة الكريمة، كتوفرهم علی بيت آمن ومتين وموصول بالماء والكهرباء.
القصة القصيرة علی وجه أعم وأشمل لا تزدهر مع حياة الهناء والاستقرار، بل تزدهر مع حياة القسوة والمعاناة، لأنها تتخذ الحالة النفسية أو الوضعية الاجتماعية للفرد أو مجموعة من الأفراد محورا لها تُعرضه وتعالجه، بل تُقدمه قصد التأسي وأخذ الدروس، وما اهتمامها بالإنسان إلا اهتمام بالطبقات المسحوقة والمنكوبة بشكل خاص. وفي هذا العصر يعيش الإنسان أقسى أنواع الظلم وأشد أصناف المعاناة،  وفي مثل هذه الظروف تنمو القصة القصيرة وتصل إلى المتلقي في عصرنا الحالي، عصر السرعة والاختصار.
هذا ما حاول كاتبنا الإشارة إليه إيحاءً وإيماءً من هشاشة وفاقة، تخلف وتأخر...
حتی طلب الإغاثة ويد العون لم يجدي النفع الكثير في مجتمع متأخر وليس له من الإمكانيات والتقنيات إلا اليسير ولأن غضب النهر كان أعظم وأقوی. لم يكن من ملجئ آخر غير رفع أكف الضراعة ودعاء الله النجاة والخلاص.
لقد قدم لنا الراوي حدثا رئيسيا واحدا، موحدا ومتحدا، منسجما ودون تشتت وتفرع الأحداث. حيث دار النص من بدايته إلی نهايته حول الحدث الرئيسي الذي هو فيضان النهر وتعامل سكان الحي معه.
وهذا من خصائص القصة القصيرة التي كان كاتبنا موفقا فيها حيث لم يخرج عن سكة النص بالسهو في سرد تفاصيل أحداث جانبية. كما أنه قد اعتمد الأسلوب المكثف والموجز المؤدي للمعنی دون إفراط أو تفريط في الوصف وبلا إطناب ممل ولا إيجاز مُخل في تصوير المشاهد.
كما أننا لم نلمس رتابة أو مللاً في السرد رغم غياب الحوار.
كل هذا كان بأسلوب سلس وجذاب وبلغة سهلة وسليمة ذات مفردات مفهومة وغير مبهمة قد أوفت بالمعنی وأدت المُبتغی بل وستجعل القارئ يتأثر ويتفاعل وهذا أيضا من غايات القصة وأهدافها.
رشيد المجنيوي،
الجمعة ١٥ أكتوبر، هولاندا.






Share To: