الكاتب الأردني الفلسطيني/ خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "الجليز التونسي..أشعار القصور الصامتة"


لا زلنا رغم كل الظروف التي تعيشها بلادنا نشعر بالحنين إليها والفخر بها، وكأن هناك ما يشبه الحبل السري الذي يربطنا عبر تفاصيلها التي تسكننا من حيث لا ندري، فلا نصدق أن بعض الأشياء الصغيرة التي تحيط بنا قد تكون مصدر فرحٍ وطمأنينة بل تمثل جزءاً من كينونتنا وهويتنا واحساسنا بذاتنا، ولطالما كان تصميم المعمار والبيوت خاصةً القديمة منها ملفتاً بالنسبة لي وكانت تفاصيلها تختزل تاريخ المكان وأحداثه وعواطفه وسيرته الذاتية، ومن هذه التفاصيل الجمالية والبديعة اخترت الحديث عن الجليز التونسي الذي كان يأسرني جماله في بيوت تونس العتيقة عبر الصور وضمن الأعمال الفنية التونسية المختلفة، فهو يجسد أصالة وعراقة هذا البلد الجميل ويحمل عبق تاريخه وغنى حضارته وتنوعها التي زينت المنازل و المساجد و القصور وتناقلتها الأجيال حتى اليوم..

فالجليز مكوّن من مربّعات تغطـّي الجدران بنماذجه القديمة أو العصريـّة لتأطير الأبواب والنوافذ والواجهات وجدران البيوت ووسطياتها كما يستخدم في الحدائق، وتمتاز به مدينة (نابل) التي حافظت على ورشاتها وأفرانها، فطوّرت صناعة الجليز فيها معامل كبرى عصرية تنتج إلى حدّ ٢٠,٠٠٠ متراً مربعاً يوميًا بشكلٍ حرفي يشابه البرتغال وإسبانيا وإيطاليا التي جاءت منها تلك الصناعة أثناء هجرة الأندلسيين بعد سقوط غرناطة، فعند قدومها معهم إلى  تونس أثناء عهد (عثمان داي) الذي كان حاكماً لها آنذاك، قام بتوزيع أراضٍ فلاحيّة عليهم، وساعد الحرفيّين منهم على نشر صناعتهم كصناعة الشاشية والتطريز والجلود وخاصةً الجليز، حيث قدم مع الأندلسيّين عالمٌ ورجل صالح وماهر في صناعة الجليز اسمه (سيدي قاسم الجليزي) والذي تحول مقامه اليوم إلى متحف ومعهد للخزف، فنشر هذا الوليّ الحرفي مع مريديه صناعة الجليز عبر البلاد واستقرّت الأفران في تونس العاصمة وخاصّة في حيّ القلاّلين، التي وصلت شهرة الجليز فيها وفي تونس عموماً في نهايات القرن التاسع عشر إلى ذروتها خاصةً في (نابل)..

حيث تم تشييد معامل وورشات ضخمة وخاصّة على يد بعض الحرفيين الأوروبيين واليهود ونخصّ بالذّكر منهم الفرنسي (تسييي) وزوجته الذي مازالت ورشته قائمة لحدّ اليوم بنابل، والإيطالي (فركلوس) وخاصّة الإخوة (ابني يعقوب شمله) اللذين أبدعا في تطوير صناعة الجليز وذلك من خلال البحوث الطويلة لتحويل أكسيد المعادن إلى ألوان جديدة تحت تأثير حرارة الأفران، ممّا جعلهم مكلفين بترميم عدّة معالم ومنها المساجد كما حصل في ترميم (مسجد ومقام أبي زمعة البلوي) بالقيروان دون أن ننسى الحرفي الماهر (بن سدرين)، فتطورت الحرفة بدورها في مختلف المدن التونسية كصناعةٍ هامة وانتشرت منها إلى بلاد ٍ كثيرة حول العالم..

وصناعة الجليز حرفة دقيقة فالمربّعات الطـّينيّة تنفذ بدقـّة وتحرق بحرفيةٍ عالية في أفرانٍ خاصّة ثمّ تطلى بسوائل كيميائية لمـّاعة وترسم فوقها نماذج من الرّسوم الهندسيّة المستمدّة من الخطّ والرسم الهندسي العربيين سواءاً كان من تربيعٍ أو تسديس أو تثمين وكذلك مع رسومٍ أخرى متنوعة للزّهور وأوراق الشجر والحيوانات وحتّى بعض العصافير والتي تجمع بطريقة إبداعيـّة تشكل جداريّات جميلة أو تزين جدران المساجد وقصور الأثرياء والمنشآت العامة..

ويمكننا ملاحظة العديد من الأشكال الجميلة والمميزة من الجليز التونسي وغيرها من مكونات المعمار التي نلحظها في تصاميم البيوت والأبواب الخشبية الكبيرة والنقوش والزخارف التي تزين الأحياء والبيوت، وتحمل في كل جزءٍ من تفاصيلها بعضاً من الحقب التاريخية المتعاقبة على تونس كما تختصر عدة ثقافات في مكانٍ واحد، فنلحظ ذلك بوضوح في المدينة العتيقة التي تجتذب محبي الأصالة والتراث الذين تلفتهم الأبواب الخشبية المقوسة التي تتخللها رسومات منقوشة بأشكال (خمسة اليد) و (الحوتة) و (الخلال) و (قرن الغزال) فهي من أبرز التمائم التي تبعد العين والحسد عن كل بيت في المدينة حسب معتقدات ساكنيها الذين مزجوا ثقافتهم الشعبية ومعتقداتهم الدينية بالثقافات التي احتضنتها تونس بشكلٍ مميز لا يشبه إلا روح هذا البلد المميز ولكلٍ منها حكايةٌ ومعنى يتلاقى ويشتبك بوجه المدينة الساحر ليضفي عليها ألقاً وجاذبية ً من نوع ٍ خاص جداً..

وللجليز التونسي أنواع عدة وأسماءٌ وأشكالٌ ونقوشٌ مميزة هي كالتالي..المعدنوسي، نوارة الشمس، النجمة، الناعورة، عفسة الصيد، جناح خطيفة، المقروض.. وهذه الأشكال الفريدة بدأت في الرجوع بقوة إلى الواجهة بعد فترةٍ شهدت تراجعاً بسبب المشاكل التي عاناها أرباب هذا الفن وهذه الحرفة الفريدة والتي تمثل دعماً للهوية الوطنية التونسية، خاصة ً بعد هجوم البناء الإسمنتي الحديث الذي يهتم فقط بالبناء بإستخدام مواد رخيصة الثمن لتحقيق أكبر مردود مادي دون أي مراعاة للجمال والزخرفة والشكل التي اعتاد المعمار التونسي أن يطل به ويميزه عن غيره، وتأثر وجه المدن عندما تراجع وجوده على خارطتها مما يؤكد أن العمارة فنٌ أصيل وليس مجرد تصاميم عشوائية جاهزة ومستوردة أو حجارةٍ صماء فنحن نكاد نسمع هذه البيوت تحكي وتغني وتشكو وتحدث المارين بها بلغتها الممتلأة فصاحةً وبلاغة مما يجعلنا نتسائل لم لا زال الإنسان عاجزاً عن سماعها بقلبه لا بأذنيه فحكاياته التي يبحث عنها بين يديه.. ولكنها الروح ولا شيء سواها إن صفت سمعت من قلب الصمت أشعارا..






Share To: