الأديب / عماد الدّين التّونسي يكتب قصة قصيرة تحت "الْبخت مايل والزهر ماعندي.. إلّي نزرعو تفاح يطلعلي هندي"




أحب الصبي الضّلّيل الفتاة عاتكة الحلوة، حباً ملك عليه فؤاده، وملأ بالفواح قلبه، وعاتكة فتاة في عمره، سمراء غامقة بلون القهوة الضاحكة، حسناء إن نظرت إليك سقتك بالعين خمراً، مدللة، وغنية، تعرف ألوان الغنج، مكسال الضحى، ولها كلب لا يكبر، مثل الهرة. سعيدة دائما.

لأبيها حظوة في السينما الوحيدة  ، فهي ترى كل الأفلام مجانا، أبوها خبير صيانة آلة العرض. تقضي عاتكة صيفها مع أقاربها في هذه البلدة  الهادئة بعيدا عن ضجيج المدينة، التي تقيم فيها . تودد الصبي ذو القروح إلى أخيها عكاض وهو قريب من عمره، مدلل، يلبس أجمل الثياب، شعره طويل، يصل إلى كتفيه، ويطّوح مع حركاته ومع نسمات الهواء، له دراجة غريبة الشكل، غير معهودة، لا تضطر راكبها وهو يمتطيها إلى رفع ساقيه عاليا فوق متنها، حتى يصير فوق الكرسي، فلها فجوة يدلف منها ساقه بسهولة، ولها منبه، وسلة على المقود للجرو.

تقيم عائلة عاتكة في الجوار، فلهم بيت صيفي من الطين، تربض في باحته الكبيرة حصادتهم  الصفراء الفاخرة، التي تنام أحد عشر شهرا في السنة، فالحصادات تعمل شهراً واحداً في حلاقة سنابل القمح والشعير الذهبية، ثم تأخذ إجازة طويلة باقي السنة ذاهبة في سبات طويل على أحلام الصيف وزيزان الحقول، وتتحول هذه الآلة العملاقة إلى ملهى للأطفال، فلا ملاهٍ في البلدة، فهم يتخذون مزراب الأكياس القصير الذي لا يجاوز ثلاثة أمتار في الحصادات منزلقاً، ينزلقون عليه المرة تلو الأخرى في حصاد اللهو. 

ينتظرها الصبي يوميا بالساعات حتى تمر أمام الباب لا ريث ولا عجل، تمشي كما يمشي الوجي الوجل، وهي تمر في اليوم عدة مرات قاصدة أقاربها على الضفة الأخرى من الشارع العام، وجروها الصغير الصوفي الشعر، المجعد، يلحق بها، وصوت علي الرياحي ينسرب من إحدى النوافذ: "أناكالطير في وكري نغني عايش في خير شكون أحسن مني" . فيلمحها ويضطرب قلبه، مثل الشحرو، في الفخ. ويكاد يصيح مستنجداً مثله من العيون التي تضرب سلاما، لكن سلام عينيها يشعل في قلبه الصغير، قلبه الجرو الذي يلحق بها، الحروب ويلهب فيه المعارك الضروس.

لعكاض أربع أخوات أشعلن البلدة بالحب والرغبات، وهن يطلعن من بيت أبيهن، فجميعهن جميلات ومغناجات، ويدركن رقة قلوب شباب الأرض ، التي جرفت الحصادة  سنابها حصدا، فيخطرن في الشارع بأزيائهن الغريبة الهفهافة، رائحات غاديات، في الصباح والمساء عند إشتداد حركة السنونوات في البحث عن الطعام في الغدو والآصال، زائرات الأقارب والجيران على الضفة الأخرى من الشارع العام، الذي يتحول إلى نهر بشري من الشباب بعد المغرب، وبعد رشه بالماء، فيخرجون بعد يوم قائظ ترصدا لخروج إحداهن، فيظفرن بنظرة تقيم أودهن العاطفي، مؤونة ليوم كامل. يضطرب الشارع ويتعرض إلى أعاصير عاطفية وأنواء وأشواق قلبية بخروج النساء وبالرطوبة الليلية، تنقلب سفن وبواخر في حبر الغرام وتغرق في قاع الأمل مثل سفينة التيتانك العملاقة.

فكر الصبي ذو القروح كيف يصيد هذا الطائر الأسمر؟ أي طعم يضعه في الفخ، فهي غنية، لا ينقصها شيء، تأكل ما تريد وتلبس ما تشاء، لابد أن ينقصها شيء ما، فهذه سنة الحياة؟ لكنه لا يعرف ما هو حتى يقدمه لها. كان يصعد يوميا إلى السطح مدعياً رعاية الحمامات ليطل على باحة دارها، عله يسرق نظرة إليها وهي تجلس أو تعبر الباحة، مرة وحيدة لمحها وهي تصعد إلى السطح على السلم الخشبي، وأطاح الهواء بتنورتها قليلا، فسقط الصبي على السطح من موجة التنورة العملاقة، ولولا الحذر لسقط من السطح على الأرض من لفحة التنورة، الصهداء. كيف سيرسل إليها رسالة غرام وحب، فليس سوى بريد العيون.

هذا هو طائر المحال، طائر السيمر العجيب. مرة وحيدة، طارئة وسحرية، توقفت في الشارع، له وحده وخاطبته من غير تحية، فتوقف متحيرا، هل تقصدينني؟ كان الوقت مساء، الشمس توشك على المغيب، قالت له: سمعت أن لديكم كرما ؟ قال: نعم هو كرم أعناب ولوز.. وفيه طيور كثيرة.. قالت: وفيه تفاح ، أحبّه كثيرا أنا . قال لها: لبيك أيتها الأميرة.

فتح يده بعفوية، مذهولا أمام الجائزة، جائزة الخسارة، فلم يكن يتوقع أجراً لهديته سوى ابتسامة شكر، هذه هدية لا تقدر بمال يا عاتكة، رحلتي ليس هذا أجرها، ثمن الجرة الذهبية هو العروس نفسها.

إنها تحب التفاح في طفولته، الوقت مساء والليل يوشك على الحلول وطمس معالم الأشياء تحت عباءته الواسعة، وهذا العاشق  يخاف من الظلمة، بعد فيلم "سبارتكوس " ، الذي أحبه  كثيراً، وصار يرى في أحلامه الملاحم الشهيرة في الفيلم. قفز على دراجته وقصد الكرم، الذي يبعد مسافة خمسة فراسخ، وهو يخشى كل الخشية من أشواك الطريق أن تثقب عجلة الدراجة، فينقطع في البرية في أول المساء. وصل وقد حلَّ الظلام، أضاء المصباح الذي يصيد به الطيور باحثا عن أشجار التفّاح ، وهو يحدث نفسه على أمل أن يصلها بها  وصلاً، هل سيكون مهراً لصداقة قادمة؟

كانت الشمس قد أنضجت بعضا  حبات منها وومدّته بالحلاوة المبكرة، قطف ما يقدر على حمله متخيراً أحلاها التي لم تمسها الشمس والمخفية تحت الأغصان ، ووضعها في كيس وأردفه خلفه على الكرسي وربطه ربطا بسيور وحبال.

وعاد وقد بدأت الكلاب  بالعواء المخيف، إنطلق بأقصى سرعة خائفا مذعورا منها، ومن صبيان الجزار الأشداء القساة، عبر طريقاً طويلا، والتفاحات  تتطاير خلفه، حمراءو صفراء ، إلتف حول المزارع، وعبر الجداول ، وغاص في التراب، ودخلت في سيقانه أشواك، وأصيب بجروح، ولهث طويلا، وزخّه عرق مالح، وإشتعلت الحدود بالنيران والرصاص بين مهربي التبغ وحرس الحدود، فإكتظت تخوم الأرض بالنار والشهب، كانت أشد رحلة عبرها في حياته، وأسرع وأطول رحلة، وصل أخيرا إلى البلدة وهو يلهث، عاد وكأنه بطل تلك الحكاية، وقد حرر العبيد من قبضة الأسياد الطغاة. غارقا في العرق، قصد دار عاتكة، قرع سقاطة الباب الحديدية، فخرجت الأم، عرفها بنفسه في الظلمة، وقال: أنا جاركم، أحضرت لعاتكة التفّاح ، قالت: نعم إنها تحبه بزيادة .

نادت الأم على إبنتها فخرجت، البنات الأربع كسولات، حييات، ضاحكات، عاتكة وعربية وعطية وعائشة، برزن من مخابئ الجمال، وأصداف المحار، يرتدين أزياء منزلية، وثيرة وشفافة، بالأحمر والأبيض والعيون تضرب سلام، سلام فيه حروب تدمّر دولا وتقوض ممالك، بعض الخدود  لها لون التفّاح  ، وبعضها لها طعمه الحلو . ناولت الأم الكيس لإبنتها عاتكة، فضحكت ونظرت إلى الباب، فلمحته، كان غارقا في عرقه، عائدا من الجبهة ، بعد غياب طويل، جرت إلى الغرفة وخرجت وفي يدها شيء، وقالت للصبي: تفضل.

فتح يده بعفوية، مذهولا أمام الجائزة، جائزة الخسارة، فلم يكن يتوقع أجراً لهديته سوى إبتسامة شكر، هذه هدية لا تقدر بمال يا عاتكة، رحلتي ليس هذا أجرها، ثمن التضحية هو العروس نفسها، وأنا أريد نظرة من العيون تضرب سلاماً حقيقياً لا حرب فيها.

لكنه لم يدر كيف يتصرف، أخذ نصف الدينار وغادر مكسورا، يحمل طعنة في الصدر، وينزف من جرح في قلبه عنبا وحصرما حامضا، لقد خسر أكبر صيد في حياته، وقدر أنه كان يمكن أن يرفضها مثل أبطال الأفلام الأمريكية، لكن الميدالية باغتته، فإحتار، الحصرم هذا لا يقدر بثمن يا عاتكة فتح يده على نصف الدينار، أجرة فلم سينمائي، بعد الإنتظار على الباب ربع ساعة، نصف دينار لا تكفي دخولا كريما، فالأجرة هي خمس مائة مليم. كانت قطعة معدنية حمراء  جدا، لتفاحات  حمراء ، طعمها يذيب العظام وتنهد ،فرد عليه أحد الصحاب

- :البخت مايل و الزّهر ما عندي إلي نزرعو تفاح يطلعلي هندي و ضحك. 

لم يفهم قصده ،لكن بعد سنوات، أدرك المعنى خاصة حين عادإلى البلدة وجلس تحت شجرة التفاح قبالة بيت عاتكه. 

لم يعد يسمع عنها ولا على عائلتها.لم يعد غير الذكريات وشجرة التفاح وبقايا بيت عائلتها والقطعة النقدية المعدنية. 

هكذا كانت وهكذا كان ويبقى التفاح لعاتكة بواح..




الأديب / عماد الدّين التّونسي يكتب قصة قصيرة تحت "الْبخت مايل والزهر ماعندي.. إلّي نزرعو تفاح يطلعلي هندي"


Share To: