الأديب / فايز حميدي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ماتَ المَلِكُ (الطاغية)"
تَهويماتٌ في الساعةِ الهامدةِ من الليلِ ..
الوقت شتاء ، والليل البهيم يقضم أطرافه في سأم ...
في حالة نصف يقظة ونصف نوم ، سلطان النوم لم يستطع قهر أرقي ..
كانت تحوم في رأسي أسماء ، وأصوات ، وبكاء ، وظلال ، ووجوه ..
الزمن فاسد هنا ، والوطن الدَّامي ، والمُهشَّم ، والمُنتَهب والمُهدد ولا من يرد عن ترابه زحف البرابرة ...
تحت صخرة القلب ، وحرقة الروح ، متدين يتطرف ، ومؤسسة مؤدلجة تعتاش مؤقتا على البقايا السليمة من جسد تالف ، شعب يباع ، وآخر استكان لقهر الطغاة...
إنه خراب العقل الفعال وتخوين المثقف وتصنيع المثقف المملوكي المتواطئ.
تلك هي الهزيمة .
هزيمة الأمة وانشطارها وخراب خلاياها وهدم أساسياتها ...
- هل أستطيع أن أعود راعيا للغنم يا أبي ؟!
- (صمت مطبق ) ..
- أتهجر الفئران السفينة يا أبي ؟!
- نعم .
- متى ؟
- عندما تشرف على الغرق !
فجأة ، لاحت لي صورة البحر الهائج من حيث لا أدري ...
إنه الزمن العاري ، والمُسيَّج بالمكائد ، ومئات السنين من التخلف والجور والعزلة العنكبوتية داخل شبكة الموت ...
كان سعيدا ينعم بسلام الأمسيات الجميلة ، حاد المزاج ، ذئباً ينام بإحدى مقلتيه ..
أُقيمت على شَرفهِ حَفلةً راقصةً ، أطفئت الأنوار ، واجتاحت الظلمة أحشاء الصالة ، وانبجست من المستطيل الفضي في وسط الصالة أضواء حيث يتسامر الضوء الملون بقوس قزح والعتمة حتى الضجر ..
سَكِرتْ حاشيتهُ من خَمرةِ الإنتصارِ العابرِ الذي كانَ بنكهة الهَزيمة ...
دَعوهُ للرقصِ ...
وعلى صخب الموسيقى رَقصَ بأنفاس مخمورة حتى اضطرَ للجلوسِ في وَسطِ الحَلبةِ على الأرضِ مُجهداً وَمُهدماً .....
أصابتهُ وَمضةُ إغماءٍ ، هاجمهُ الشُعورُ بالفناءِ ، بَدأَ يَسمعُ حَفيفَ أجنِحةَ المَوت ، شعرَ باستبدادية اللحظة وكأنهُ سَقطَ في هوةٍ مُظلمةٍ وَعميقةٍ في عالم رهيب من الغياب . ...
اكفهر جو الحفلة ، وبدا الأفق بلا مفاتيح ..
سارعَ أحدُ كِبارِ قادة الملك قائلاً :
ماتَ الملكُ ...
خيم صمت كثيف وثقيل ، وأطبق سكون تام ..
طار الخبر وراح ينتشر إنتشار الفضيحة في أرض ظامئة إلى الفضيحة ...
في تلكَ المَقبرةُ الغافيةُ على كتفِ المَدينةِ والأقربُ إليَّها ، وفي ساعة غامضة من الليل ، ريح رشيقة محملة بالطيب ، الآلاف مِنَ الجِثثِ تَخرجُ من قُبورِها وتصطف وتتزاحم إلى جانب سور المقبرة الداخلية وتسارع إلى اغلاق بوابتها ، المكان كله يمتشق أنقاضه المحطمة مثلما تمتشق المحنة مراثيها في اختراق فاضح لطقس مقدس ، مدججين بضراوة الحق ، والحقد النبيل .....
أجنحة خفية نبتت لها ، ورفرفة مستقلة عنها ، محرضة إياها في نداء عميق نحو بقاع قصية ...
قالَ كبيرُ ضَحايا المَلكُ بذاكرته الطرية محدقا في خلاء روحه بعينين يغزوهما الثبات والأسى :
(أيها الطاغية ، كان عليك أن تقرأ التاريخ ، ما زال الحُلم يُرشدنا كما الوحيُّ ، وما زال أملُنا بمولود جميل ينسي أمَّهُ شقاءَ حملهِ .
نحنُ ولِدنا لِنحيا وَنحنُ نموتُ ..وأنتَ ولدتُ لِتموتَ وأنتَ تَحيا ..) .
في ظَاهرِ المَدينةِ ...
ما زال دمُّ الأبناء ينزف في بستان الأمكنة ..
والذاكرة تراكم ذكرياتها وتنظم مخزونها وتحوّله نسغا .
كان السؤال صدى لسؤال ميت قيل بالأمس وقبل الأمس ..
لماذا يبدو المستقبل دهليزا مظلما أحكم اغلاق بابه ؟! .
هناك حيث يتثائب الصمت ...
الرجل المُقِلُّ في كلامهِ ، والمستند إلى الجدار يداري توتره باشعال سيجارة ، ويبتسمُ ابتسامةً سَوداء ، يَبوحُ بآلامهِ بصوتٍ رَصينٍ ومُنفعل :
الشوارع والأحياء تغيرت أسماؤها ولغات كثيرة أنتشرت في أزقتها وحواريها ، الناس هُجِّروا من منازلهم ، السجون تفوح منها رائحةِ الموتِ ..
كم من عذابات لم يؤرخها أحد انتسبت إلى العدم ..
وجوه شاحبة يضيئها مصابيح معلقة على الجدران فتضيء من يعبر تخومها ...
البيوت تبدو من بعيد كلطخة سوداء معتمة لكنها متواشجة على نحو حميم ، وعبر نوافذها تُرى أحلامها الوردية مجروحة النداء وهي تغادر إلى قبو النسيان ..
إنها أورام مدينة تتكئ على حاضر شاحب ...
مدينة الأنتظار المخنوق بين أصابيع الزمن ..
بلاد تئنُّ ..
البدر المتلألئ المكتمل يشبه لؤلؤة رائعة معلقة في السماء نديم الأرض يبدو كرغيف في نظر فقراءه ، وكرة في نظر أطفاله ...
يا إلهي ، كيف تشرد الحلم ؟؟!
هُناكَ حيث يَغفو الضِياء ...
كانَ ثُمة كلبٍ يَنبحُ ويرتجلُ جسارةً وهميةً أمامَ كلِّ عابرٍ .
ودراجةً هوائيةً قديمةً تتكئُ على حائطٍ مكسورٍ .
وصوتُ طرقٍ على قِدّرٍ عَتيق ...
الريحُ تَعوي ، وَتثورُ ، وَتنوحُ ، وَأصواتٌ لأناسٌ غَاضبينَ تأتي من نُقاطٍ نائيةٍ ..نائيةٍ جداً .
محبتي
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )
الأديب / فايز حميدي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ماتَ المَلِكُ (الطاغية)"
Post A Comment: