الكاتب المغربي / إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "جرح لم يلتئم"
وضع حقيبة بجانب مكتبه، نزع حدائه الذي لا يفارق قدميه إلا نادرا ،نزع عنه كبوطه الشتوي، أحس بأن عظامه مرتخية في جسمه بعد يوم شاق من العمل، أخد يرتب بعض الأوراق المتلاشية فوق مكتبه، أعاد وضع اليومية وسط المكتب بعدما وضعتها والدته في جانبه و هي ترتب أغراض غرفته صباحا كأنها لا تستهويها رؤيتها في وسط المكتب.
التهم وجبته من الغداء في المطبخ ، وسقى روحه بكوب ماء بارد وعاد إلى غرفته كأن شيئا من الطاقة دب في جسمه، تحسس بعيونه بعض رواياته المرفوفة على مكتبه بشكل عشوائي، تلمس بأصابعه من بينهم رواية" أنا يوسف" للكاتب الأردني أيمن العتوم.
أرخى العنان لمفاصيله فوق سريره المركون في زاوية غرفته، تلمس غلاف الرواية و قف عندها مطولا، استعاد كلمات أيمن العتوم في حديثه عن الرواية في حواراته.
بدأ القراءة من أول صفحة، شده من عنقه أسلوبه الفذ في الوصف و السرد، غاص بين متون الرواية و لامست كلماتها كل ما يتحرك فيه من أحاسيس. انصعق من ما قرأ، وقف طويلا عند العبارة، قرأها بعينه عدة مرات، فتحركت أحباله الصوتية كأنها تريد لهذه الكلمات أن تخرج من روحه من قلبه ليترجمها عبر شفتيه بصوت مسموع.
" إنّ واحدنا دون أنثاه صفر، أرضٌ بلا زرع، وسماءٌ بلا مطر، ولا يُهاب إلا من كان ذا رَهط"
قال بتدمر و هو يلفظ أنفاسه من وقع العبارة على قلبه كأن قلبه ينزف دما بين أحشائه كأنه يحاكي الكاتب:
فقدتها يا أيمن و أنا بالكاد أقطفها، انتظرت طويلا، صمتُ على شم رائحتها الزكية، على نظرتها البراقة لكنها انجلت مند ذلك اليوم، غابت و لم تعد، و لم أكلف نفسي عناء السؤال عنها بل ركضت في اتجاه المعاكس مبتعدا، متسولا لرياح النسيان أن تطوق قلبي و تعتصره حتى يتلاشى وجودها من فوق جغرافيته الوعرة.
أحيت فيه العبارة ما لا يريد نبشه، كأن ذِكر الأنثى يجعل أسهم أحاسيسه تتجه نحوها دون أن يفكر، كأنها تحتله إلى حد الهوس، و صورتها لا تفارق مخياله، كان متبدى كل شيء في عيونه، يعشقها و يذوب فيها !!
عاد بذاكرته إلى الخلف، توقف ليستعيد مجريات ذلك اليوم بقلب مكسور و هو يفلت من يديه جسم الرواية و طنينها يدق أذنيه بعد ارتطامها بالأرض .
انفلتت الكلمات من بين شفتيها و هم يتجاذبون أطراف الحوار في مواضيع شتى بين جدران المقهى.
كان يحتسي كوبه من الشاي المنعنع كما هو معهود إليه، فضلت هي أن تشرب عصير برتقال، لم يكثرت لاختيارها، كان يتابع كل حركاتها بتمعن، فتفوهت قائلة مغيرة مجرى الحديث : لقد طلب يدي للزواج أحد زملائي في العمل.
تجمد فيه كل شيء، أراد أن يخبرها أنه يعشقها بجنون، و أنه بالكاد يريد أن يتقدم لطلب يدها، لكنها كانت تخنق أنفاسه بفرحتها بطلبه ، مدحته دون توقف، ذبحته من الوريد إلى الوريد،قذفت في دواخله الظلمة دون أن تشعر.
كانت المرة الأولى التي لا يستمتع و هو ينصت إلى كلماتها بعمق، و ينظر إلى عيونها السود، و الرغبة في ملامسة يديها البريئتين تجترح فؤاده.
كل ما كان ينفلت من بين شفتيها، يؤلم كل ما يجري به تجاهها، كان يستمع إليها و هو شبه مخمور، ضائع يفكر في سيناريوهات الممكنة، و رغبة جامحة في دواخله تريد أن تصرخ بكل ما تملكه من قوة في وجهها.
أرجوك، أرجوك، لا تتممِ، كفى، كفى.
كان يشعر بشيء من العنف في كلماتها و هي تتحدث عن شخص غيره، كما لم يشعر من قبل، كان يتصور ردة فعلها، و كل ما يمكن أن يحدث لو عبر عن غضبه.
تراءت له أطيافها تحلق بعيدا و تبتعد عن دائرة إبصاره و هي تمدحه، اصطدمت الأصوات في فؤاده و تعاركت، و تسللت في أعماقه الرغبة في إفراغ كل ما يغيس به قلبه اتجاهها من حب و هي غارقة في الإنتشاء في تصورات حياتها المستقبلية بجانبه.
خارت قوى قلبه، جوارحه و كل ما يجري به اتجاهها، كان يريد أن يتخلص من كل ما يشعر به اتجاهها.
شيء من الجنون كان يسكن عقله، و يتربص بثخوم ذاكرته، و يحاول فهم و تفسير حزن و غضب الإنسان عن ما ليس بحوزته.
كل أحاسيس الندم استيقظت فيه دفعة واحدة، كانت تواجه متضامنة و سيل أحاسيس الكآبة تعتصر روحه،
كان ينظر إليها و شبه منتشي بكل ما شعر به اتجاهها كل هذه السنينن و أحاسيسه سجينة قلبه.
كان يفتخر بصدق حبه، بصدق مشاعره، بصدق احترامه، وهي تملأه إلى حد الهوس. كان يعشق كل تفاصيلها دون ملل . تسحر أنفاسه و تجره اتجاهها بطريقة تضعف قواه على مجاراتها .
هاجمته الأصوات من كل جانب، من أجل أن يعود إليها، من أجل أن يظهر أمامها بشكل مفضوح و عاري، كأنها تحاول أن تقنعه أنه لم يتبق لديه شيء ليخسره.
اعتدل في جلسته و الحزن لا يريد أن يغادر محياه، و تحركت خلايا عقله و بدأت تحاول الإجابة بموضوعية كأنها تريد أن تقتلع تلك الأصوات التي تأن اتجاهها من مكانها،و الكلمات تلوذ في عقله دون توقف.
في الحياة دائما ما يأتي ذلك اليوم الذي تُرفع فيه الراية البيضاء في دواخلنا، تجاه تلك الروح التي بدلنا كل ما في وسعنا من أجلها و هي لم تنتبه.
تغيب فينا الرغبة و يجف كل شيء من حيث لا ندري، و تخفت الأضواء و نحن لا نشعر، و تنتهي الكلمات و بالكاد نستشعر الأمر بعد مرور أيام ...،كأنها تريد أن تحفظ كرامتنا من السقوط.
دون سابق إنذار يجف لساننا عن الكلام و قدمينا عن الخطو، نرحل لأننا استنفذنا ما في جعبتنا، أو لأننا أكثرنا الدق دون أن يلتفتوا.
نغادر لأننا بدلنا كل ما في وسعنا، لأن ترددنا كثيرا قبل الرحيل .نغادر عندما نتأكد أن لا فائدة من وجودنا من حديثنا من تنفسنا في حياة من نريد البقاء بجانبه، نغادر دون أن نترك أثرا، و شعور بالانكسار يكسر أفئدتنا دون القدرة على توقيفه.
تذهلنا الصورة و نحن نتدبر ، الجهد المبذول، نغض الطرف دائما و نخطو إلى الأمام و كلنا أمل في اعتناق من يسكننا، تلك العضلات التي خارت قواها في دواخلنا لا ترحمنا، دائما ما تمتلىء عيونها بالدمع و هي تسترق النظر إلينا متمسكين بشيء جميل في الأفق طال إنتظاره.
فينا دائما أصوات متضادة في كل شيء ، تحمل أفكارا متنافرة ، حتى تجاه من نحب !!
تقضي علينا في لحظة انكسار و نزيف الجرح تجاه من يسكننا لتميت الشعور فينا إلى الأبد.
الكاتب المغربي / إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "جرح لم يلتئم"
Post A Comment: