شيرين أبو عاقلة وأغاليط الرحمة | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم أستاذ جغرافية الأديان- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر


شيرين أبو عاقلة وأغاليط الرحمة | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم أستاذ جغرافية الأديان- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر



شيرين نصري أنطون أبو عاقلة صحفية فلسطينية تم اغتيالها يوم 11 مايو 2022 في مدينة جنين المحتلة ، ومنذ اغتيالها تتوالى فتاوى بعض المنتسبين للدعوة بحرمة طلب الرحمة لها لأنها غير مسلمة. وهؤلاء المغلّقون لأبواب الرحمة قد أساءوا إلى الإسلام إساءة نحتاج معها إلى سنوات لمحو تلك الإساءة ومحو مخاوف العامة من الدعوة والدعاة واستهجان كثير منهم لتلك الفتوى.

وفي هذا المقال نحلل قضية الترحم على شيرين من الناحية الأصولية والفقهية مع عدم ذكر اسم داعية أو جماعة من المانعين، فنحن نتحدث في الأصول وليس في قضية شخصية، أو رد يقابله رد؛ ومن ثم نقول:

1= لأهل الكتاب حقوق منها حل الطعام والنكاح والتهادي والبر والصلة والإحسان وغيرها، راجع كتابنا: حقوق غير المسلمين في الإسلام، مكتبة الإسراء، الإسكندرية، 2010.


2= مبدأ التعزية مشروع ، وهو من ضمن البر الذى جاء فى قوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة : 8)، وقرر الفقهاء أن يقال لغير المسلم : أخلف اللّه عليك. ومن صور المجاملات أن النبى صلى الله عليه وسلم عاد غلاما يهوديا كان يخدمه وعرض عليه الإسلام فأسلم ، كما رواه البخارى فى "الأدب المفرد " وذكره ابن حجر فى "المطالب العالية".


3= الجزم بالرحمة لمن مات –مسلما كان أو غير مسلم- لا يصح، لأن الميت قد ذهب إلى ربه بما عمل وهو أعلم به . ودليل ذلك ما رواه الترمذى أن غلاما استشهد يوم أحد ، فوجد المسلمون على بطنه حجرا مربوطا، بسبب الجوع ، فمسحت أمه التراب عنه وقالت : هنيئا لك الجنة يا بنى، فقال صلى الله عليه وسلم "وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره "؛ فإذا كان هذا فى المسلم فغير المسلم من باب أولى لا نخبر عنه بأنه مرحوم أو ذهب إلى رحمة اللّه . وفي حديث أم العلاء في صحيح البخاري (وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ). ولكن نقول بالترحم على سبيل الرجاء، فرحمة اللّه وسعت كل شىء.


4= الدعاء للميت بالرحمة، أو قراءة الفاتحة ليرحمه الله ، فذلك جائز للمسلم، أما غير المسلم فقد تحدث العلماء عن الاستغفار أو طلب الرحمة له ، فى حال حياته أو بعد مماته ، فقالوا : إن كان حيًّا جاز الاستغفار وطلب الرحمة والهداية بالتوفيق إلى الإيمان ، وعليه يحمل ما ثبت عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال عن قومه المشركين "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" رواه البخارى ومسلم . ويحمل أيضا ما رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم لما زار عمه أبا طالب فى مرضه الذى مات فيه وعرض عليه الإسلام فأبى ، قال " أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْه عن ذلك " فأنزل الله تعالى {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه } (سورة التوبة : 113 ، 114).


5= الدعاء لغير المسلمين بالهداية ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد دعا لدوس كما في صحيح البخاري (قَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ).، ودعا لثقيف كما في مسند أحمد (اللهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا). وكان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله، فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم، كما في الحديث الذي رواه أحمد.


6= الدعاء لغير المسلمين بكثرة المال والولد وغير ذلك من المصالح الدنيوية اختلف في مشروعيته، فأباحه الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"، وجوزه النووي ، وقال المناوي في "فيض القدير شرح الجامع الصغير" بجوازه.


7= نصوص تحريم الترحم التي ساقها المانعون نحفظها جميعها، فلا داعي لتكرارها وإضاعة وقت القارئ الحصيف، ولكن نذكر أنه ظهر في تاريخ الإسلام ما يُعرف بالمدرسة (الظاهرية)، إذ يأخذون بظاهر النص دون تحليل، فهم قد أخذوا بظاهر المنع فمنعوا.


8= سيقول المانعون: قد سقنا أدلة المنع والنص، و"لا اجتهاد مع النص"، نقول: هذه القاعدة تنطبق على النص (قطعي الثبوت قطعي الدلالة) وما عدا ذلك تفتح فيه أبواب الاجتهاد.


9= تغليظهم في قضية شيرين، ليس لأنها غير مسلمة، بل لأن الغلظة طبع لهؤلاء المانعين أصلا في كل قول وفعل، حتى مع المسلمين –العابدين منهم وغير العابدين- وقد كان القول بحرمة إمامة الحليق، وحرمة التصوير، وحرمة السفر لبلاد "الكفار"، وحرمة الإسبال، وحرمة عمل المرأة ، وحرمة تعليم المرأة غير العلوم الشرعية ، وحرمة لبس الجرافتة هو الأصل عندهم. ولقد تم منعي من الإمامة في أحد المساجد منذ حوالي 23عاما لأنني ألبس الجرافتة، إذ أنهم يعتبرون أن الداعية الذي أفتى لهم بكل تلك المحرمات هو المتحدث الرسمي للملة، فلو أتي العلامة الكوثري ذاته فدحض تلك الفتوى لطردوه مثلما طردوني. ونفس الأخطاء في تخريج تلك الفتاوى وأمثالها هى هى لم تتغير. ومع حصار الدعوة في كل مكان وانتشار حركات الإلحاد فالفكر لم يتغير.

10= نفترض أن المانع من الرحمات هو من الراسخين في العلم، وله أدلته الصحيحة؛ نقول له: أنت قد بلّغت، فما على الرسول إلا البلاغ، سواء عمل الناس بفتواك أم لم يعملوا فأجرك على الله، أما كونك تتطاول على غيرك أو على من يخالفك في الفتوى أو على المجتمع الذي لم يستجب لقولك؛ فهذا ينافي آداب الدعوة، وآداب حملة العلم. وإذا كان الترحم عليها وفق فتواك مخالف للعقيدة؛ فسوء الأدب مع الناس وفرض الوصاية عليهم، أكبر عند الله وعند الناس، لأن فرض الوصاية دليل الكبر والعُجب؛ وكلاهما من محبطات العمل.


11= الأصل في العلاقة بين الخلق والخالق أنهم جميعا داخلون في رحمة الله تعالى، ومن أدلة ذلك قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) "سورة الاعراف 57"، فرحمته التي أرسل بها الرياح تشمل كل من في الأرض. وقوله تعالى (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة القصص:73). بل كل ما سخره للناس هو من رحمته، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) (سورة الشورى28) فرحمته المنشورة شملت المسلم وغير المسلم، فكيف للمانع أن يطوي ما هو منشور أصلا؟؟!! إن هذا لشئ عجيب. وإذا كان قد نشر رحمته في الدنيا فرحمته في الآخرة التي يمنعها المانعون يوضحها الحديث في صحيح البخاري، في كتاب الأدب ، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ).


12= الذين يحسبون أنهم يحتكرون الحقيقة المطلقة للعلم والإيمان في الدنيا فيكفروننا، ويحتكرون مفاتيح الخزائن في الآخرة فيتألّون على الله؛ نذكرهم بحديث المتألي على الله، وبقوله تعالى (قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً) (سورة الإسراء:100). وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) في قوله تعالى "أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ" (سورة ص:9): "أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ": أَيْ لَيْسُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا الْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْوَهَّابِ: مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ. ولَمَّا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ تَصَرُّفِهِمْ فِي خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَتَى بِالْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ بِانْتِفَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ. فالحمد لله الذي لم يجعل الرحمة بيد أحد من خلقه، فهو أرحم الراحمين.


13= راجع خطبتنا عن رحمة الله في شرح حديث (لقد حجّرت واسعآ)

https://www.youtube.com/watch?v=

9efrs612wLM&t=21s


14= المفتي الحق والداعية الحق عليه مسؤلية اجتماعية لابد أن ينتبه إليها، تلك المسؤلية تجعله يُجمّع ولا يفرّق، ويحبّب ولا يبغّض. والفتوى بغلق أبواب الترحم في قضية شيرين ينافي كل ذلك. فالرسول –صلى الله عليه وسلم- في قضية الإفك أقام الحد على ثلاثة من الصحابة، ولم يقمه على رأس النفاق وهو الأفاك الأول عبد الله بن أبي بن سلول، فمن خلال المسؤلية الاجتماعية لو تم جلده لارتد كثير من قوم ابن سلول على أعقابهم. لقد عاقبه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالعفو عنه، نعم عاقبه بالعفو، إذ أصبح مكروها في المجتمع كله، حتى أن ولده عبد الله بن عبد الله طلب من الرسول –صلى الله عليه وسلم- لو أراد أن يصدر حكما بإقامة حد القتل على أبيه لإيذائه رسول الله ولعنه كما ورد مفصلا في سورة "المنافقون" استأذن أن يقتل هو أباه، بدلا من أن يقتله أحد المسلمين فيقوم هذا الولد البار بقتل المسلم القاتل مقابل المنافق المقتول. هذا هو الفقه العالي من الرسول –صلى الله عليه وسلم- إذ همّ بصلاة الجنازة عليه، وخلع قميصه الشريف فأعطاه للولد ليكفن فيه أباه، ولم يمنع الصحابة من الصلاة عليه. هذا هو الفقه العالي الذي لم نفطن إليه في قضية شيرين. رغم أن النفاق أشد خطرا من الشرك.


15= من قواعد الأصول أن (الفتوى تتغير بتغير الحال) ، وللتوسع في تلك القواعد على القارئ مراجعة (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم)، ومن ذلك تغيير عمر بن الخطاب –رضى الله عنه- صورة الجزية مع نصارى بني تغلب ووقفه حد السرقة في الثغور، ومنعه سهم المؤلفة قلوبهم، وتقسيم الصحابة إلى طبقات في العطاء، وغير ذلك كثير.


16= ولما كانت (الفتوى تتغير بتغير الحال) فإن شيرين أبو عاقلة قدمت لقضية فلسطين ما لم يقدمه مئات الآلاف من الرجال الذين لا نفع لهم، كما ورد في صحيح البخاري، في كتاب الرقاق عن عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً".

ومن ثم فحال شيرين هو (الكرامة والعزة) فالفتوى (يجب) أن تناسب ذلك الحال.

اللهم هل بلغت- اللهم فاشهد






شيرين أبو عاقلة وأغاليط الرحمة | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم أستاذ جغرافية الأديان- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر






Share To: