الكاتب المصري / د. علي حسن الروبي يكتب مقالًا تحت عنوان "حريّةٌ ثُم النار وقيودٌ ثُم الجنة!" 


الكاتب المصري / د. علي حسن الروبي يكتب مقالًا تحت عنوان "حريّةٌ ثُم النار وقيودٌ ثُم الجنة!"



تمثل الحرية قيمةً إنسانيةً، يتطلع إليها كل الناس بفطرتهم، لكن إطارها وحدودها تتشكّل وَفقاً لما يتبعه كل إنسان من مناهج فكرية أو يدين به من دينٍ سماوي أو أرضي. والمقصود أن الحرية مهما بلغت عند بعض الناس من تعظيم وإعلاء= فلا بد أن يكون لها سقف تقف عنده ولا تتجاوزه. وهذا السقف جعلته الأيديولوجيات الغربية الإضرارَ بحرية الآخرين أو الاعتداء عليهم، بينما يجعل الإسلام تعارض الحرية مع نصوص الوحي من أوامرَ ونواهٍ سقفاً ينبغي أن تنتهي عنده؛ لأن الحرية – في هذه الحالة- ستضر بصاحبها في الآخرة ضرراً كبيراً.

وليس من شكٍ أن الحرية تحتل في المنظومة الفكرية والقيمية في الغرب منزلةً كبيرةً؛ ما جعلها تصل إلى منزلة التقديس الذاتي، فصارت مقدّمَة على غيرها من القيم الأخرى، بل حاكمة عليها ومنظِّمة لها؛ بما في ذلك الدين نفسه. ونتج من ذلك كله أن الحرية- بمفهومها الغربي- الذي لا سقف له إلا الإضرار بحرية بالآخرين فحسب- صارت بمنزلة الصنم الذي يعبده أهل الحضارة الغربية.

وانتقلت عدوى هذه العبادة إلى أتباع المناهج العلمانية والليبرالية في بلاد الإسلام، وصاروا ينادون بتقديس الحرية الشخصية على نحو ما هو موجود في الغرب، حتى وإن تعارضت تلك الحرية مع المقدسات أو المسلَّمات الدينية.

والحق أن بهرج الحرية فيه من الإغراء ما يسلب العقول؛ حيث يصبح الإنسان متحرراً من كل قيدٍ أو إلزامٍ سوى ما يلزم به نفسه، بلا إملاءٍ من دينٍ أو عُرفٍ؛ وهذا بدوره يفتح للمرء آفاقاً من نيل الرغبات السلوكية والحصول على الملذات الحسية والمعنوية، ما لا يحصل له لو كان ملتزماً بشريعةٍ ما، لا سيما شريعة الإسلام التي لا تكتفي بتنظيم الحياة الروحية للإنسان، بل تنظم له سائر شئونه وحياته السلوكية، الفردية والاجتماعية، الخاصة والعامة؛ إذْ ما من تصرفٍ شخصٍي إلا وهو خاضع لحكم الشريعة عليه بالمنع أو الإباحة!

وإذا كان الأمر على ما ذكرنا؛ فلا بد أن نعترف بأن ما تعطيه الأطروحة العلمانية للإنسان من حريات وحقوق شخصية = هو أوسع كثيراً عما يعطيه له الإسلام، ويظهر هذا الاتساع جلياً في حريات المرأة وحقوقها على جهة الخصوص. لكننا مع هذا الاعتراف وذاك التسليم؛ نتسائل أيضاً: ماذا بعد تلكم الحريات والحقوق ؟!

نعم، ماذا يغني عن الإنسان أن يعيش حراً طليقاً من كل قيدٍ، سوى ما يمليه عليه ضميره، ثم يموت بعد حياةٍ قصيرةٍ جداً مهما كان عدد سنواتها، فيُحال بينه وبين إتيانه ما كان يشتهيه من تصرفاتٍ وأفعالٍ، ثم يحيا مرة أخرى فيُحاسب على كل تصرفٍ من تصرفاته وكل سلوكٍ من سلوكياته، لا بمعاييره هو بل بمعايير من أحياه ليحاسبه ويجازيه؟!

وعلى سبيل ضرب المثل: ما قيمة أن تعيش امرأة بكامل حريتها، ترى أن جسدها ملكٌ لها، تمنحه لمن شاءت من الناس ما دامت راضيةً غير مجبرة، وتعرض مفاتنه حيث كانت وتلبس ما شاءت، وتتحرك في كل مكان حسبما أحبّت، وتغزو مجتمع الرجال وتشاركهم أعمالهم وأنشطتهم كما أرادت، وتحقق ذاتها، وتبني مستقبلها، وتكتسب شهرة، وتصل إلى طموحاتها وأحلامها...إلخ

أقول: ما قيمة كل هذه الأشياء لتلكم المرأة أو لغيرها إذا كان الموت سيضع حداً لتلك النجاحات؟! ثم الموت ليس هو النهاية، بل البداية لحسابٍ ثم عذابٍ أو نعيمٍ؛ حسابٍ من خالق هذه المرأة عن كل تصرفٍ أتته في حياتها وعن كل قرار اتخذته، وهل كان موافقاً لما شرعه خالقها الذي خلقها لتطيعه فإذا أطاعته وسيّرت حياتها على منهجه؛ استحقت الحرية الكاملة والنعيم الدائم الخالد الذي لا انقطاع له، أم أنها ألقتْ أوامره دَبْر أذنها وسيّرت حياتها وَفق قناعاتها الشخصية الخاضعة للتصور العلماني الغربي عن الحريات والقيود والجائز والممنوع؟؟

إن الحرية الشخصية- بمفهومها الغربي- كانت تصير ذات قيمة بالفعل= لو كانت هذه الحياة الدنيا هي النهاية والغاية؛ إذْ لا معنى أن يعيش الإنسان سنوات عمره القصيرة جداً مكبلاً بالقيود المختلفة؛ ليحرم نفسه من كثير من حظوظ النفس ورغباتها الحسيّة والمعنوية بلا طائل وبلا مقابل إلا الاستجابة لأعراف الآخرين وآرائهم.

نعم، فالحرية الشخصية بالمفهوم الغربي مناسبة جداً ومتسقة تماماً مع الطرح الإلحادي الذي لا يؤمن بإلهٍ ولا بعثٍ ولا جنةٍ ولا نارٍ؛ بل هي- الحرية بمفهومها الغربي- ما صيغت بتلك الصياغة= إلا لكونها ثمرةً للقراءة الإلحادية للوجود الإنساني، أو تلك التي تؤمن بوجود خالقٍ لا علاقة له بالناس إلا من حيث إيجادهم فحسب!

متسقون مع أنفسهم للغاية أولئك المنادون بتقديس الحرية الشخصية وإطلاق العنان لها والوقوف ضد ما يقيدها أو مَنْ يحذِّرون من خطر الاسترسال معها= ما دام أولئك المنادون بالتقديس ملحدون لا يؤمنون بوجود خالقٍ ولا حياةٍ أخرى، أو يؤمنون بوجود الله لكن لا يؤمنون بأنه خلقهم لعبادته وطاعته وليعشوا في الحياة وَفْق منهجه الذي رسمه لهم في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، ثم ينادون بتقديس الحرية الشخصية ( بمفهومها الغربي)، ويدعون الناس إلى ذلك ويسعون لأطْرِ المجتمعات الإسلامية على ذلك أطراً ، وحملها على الانسياق إليه قسراً= فهؤلاء في الغاية من التناقض وفي النهاية من الازدواجية والتخبط.

إنّ الإله الذي تزعمون الإيمان به خلق الناس ليعبدوه ويطيعوه ولتكون حياتهم سائرة على منهاجه الذي شرعه لهم في قرآنه وبلغهم إياه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسوف يجازي من التزم منهجه وقام بعبادته وأطاع أوامره واجتنب نواهيه= بالجنة والنعيم المقيم، وسوف يعاقب من أهملوا أوامره واقترفوا نواهيه= بعذاب جهنم، الذي لا طاقة لأحد به.

فكيف- والحال هذه- يسوغ لإنسانٍ يؤمن بهذا الدين وبمَنْ أنزله وبمَنْ أبلغه= أن يقدّس الحرية الشخصية بصورتها الغربية ويمجّدها ويدعو لها وهي متضادةٌ كل التضاد ومتعارضة ٌكل التعارض مع عَقْدِ الإسلام، الذي هو الاستسلام لأوامر الله تعالى في دقيق الأشياء وجليلها، وفي كل جانبٍ من جوانب حياة الإنسان، كائناً ما كان ؟!

إنه مهما يكن على مَن التزم بشريعة الإسلام من قيودٍ ومكبّلات، فماذا يضيره إذا كان عاقبة أمره إلى الجنة؟!

فمثلاً، ماذا خسرت امرأةٌ مسلمةٌ ملتزمةٌ بالحجاب كما أمرها الله، حرمتها قيود الشريعة أن تتابع آخر خطوط (الموضة) العالمية لما فيها من تبرج في الملبس، أو حالت الشريعة بينها وبين رغبتها في أن تكون بطلة في رياضةٍ ما تحتاج إلى كشف الجسد كالسباحة، أو في فنٍ ما كالباليه؟!

ماذا خسرت هذه المرأة وقد انقضت أيامها في الدنيا سريعةً ثم وصلت إلى الجنة حيث النعيم السرمدي الذي لا تشوبه شائبة من كدرٍ؟! وماذا كسبت امرأة أخرى عاشت حريتها بحذافيرها وحققت أحلامها في الشهرة والمجد الشخصي، ثم ماتت ثم بُعثت ثم كان مصيرها إلى النار حيث العذاب الأليم والشقاء المقيم ؟!

أيُّ المرأتين أخسر صفقةً وأفدح مصيبةً، مَن كان حرمانه سنين معدودة من أشياء معينة محدودة؟! أم من كان حرمانه دهراً طويلا – لا يعلمه إلا الله- من النعيم الكامل، بجانب ما هو فيه العناء والشقاء والألم الذي لا يشبهه ألم ولا يساويه عذاب؟!

لا جرم أنه لا خير في حريةٍ بعدها النار، ولا ضير في قيودٍ بعدها الجنة.

إن هذا ليس ضرباً من الوعظ والترهيب الذي يستعمله الخطباء والوعاظ في كلامهم، بل هو حقيقة ماثلة للعيان لا سبيل إلى التشكك فيها عند من يزعم أنه يؤمن بالله تعالى رباً، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم –رسولاً، وبالإسلام ديناً.





الكاتب المصري / د. علي حسن الروبي يكتب مقالًا تحت عنوان "حريّةٌ ثُم النار وقيودٌ ثُم الجنة!"


Share To: