الأديب التونسي / رضا العياشي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الشاحنة"
رذاذ مطر شتوي تعبث به نسائم باردة، لا يزال الظلام حالكا.
أفاق على قرع نافذة غرفة نومه، كانت والدته تستجديه
- " نوظ عيش ولدي باش ادّز معانا الكميون ... ابّيك ماشي للسوق.
- " كل يوم دزّان ..كل يوم دزّان،مالا عيشة كلبة ...وقتاش يبيع ها الخردة و يرتّحنا ..
أزاح عن جسمه غطاءه الصوفي وهو يتمتم .
عندما التحق بالركب وجد شقيقاته قد سبقنه حيث تجثم الشاحنة ..ربوة صغيرة حذو شجرة " بطوم" تشرف على منحدر .مكان تخيّره الوالد بكل عناية ليركن شاحنته العجوز كل مساء حتى يتسنّى تشغيلها صباحا و لو تطلّب الأمر بعض الدّفع ..صراع مرير مع المحرّك يزداد تواتره كلما اشتدت البرودة.
كان والده في موقع القيادة وهو يحرّك أسلاكا و يضغط على قرص علّه يبعث بعض الدفء في جسد الشاحنة المنهوك و كان الجميع في انتظار الاشارة ، التي سرعان ما أعلنها والده بيده ايذانا بالدفع .
حشرج المحرّك بأصوات غير منتظمة ثم لاذ بصمت جنائزي .. عمّ السكون المكان الا من تأفف شقيقاته و أصوات مبهمة و حركات كان يأتيها والدهم ، كانت تتراءى لهم عبر البلور الخلفي و كانت تشي بتشنّج لافت . .
فشلت المحاولة اذن ، و هذا يعني أنه يتعيّن عليهم دفع الشاحنة زهاء مائتي متر أخرى حيث يوجد أقرب منحدر ، هناك فقط تتجدد المحاولة ...
عندما حل الركب بالمكان،- منعطف سانية حمودة - كانت الجباه تسيل عرقا خالطه الرذاذ. و كانت الأنفس تكاد تنقطع و هي تزفر بخارا يرتفع ثم يتلاشى...
اثر فترة صغيرة من الراحة ، يعاد السيناريو: التسخين اليدوي للسائق ثم تأتي الاشارة و يبدأ الدفع..
بعد تلكّؤ ، ها هو الهدير المدوّي للشاحنة يقطع السكون الصباحي المخيّم على القرية، ينبعث من مؤخّرة الشاحنة دخان أسود كثيف شوّه ثياب شقيقته التي أوقعها حظها العاثر بأن يكون مكانها في مواجهة خرطوم تصريف النفايات- كما ترك آثاره على وجهها و كأنها خارجة للتوّ من حصة تدريب للمارينز..
الارتدادات لم تتوقف عند هذا الحد، لقد كانت التوصيات الصارمة تقضي بضرورة توقّف عملية الدفع و بالانسحاب الالي السريع عقب البوادر الأولى لاستجابة المحرّك و تشغيله،
إلا أنه ظلّ ملتصقا بخلفية الشاحنة وهي تندفع بأقصى قوّتها، و عندما رام الانفصال، تدحرج ووقع ارضا ، حجر ناتئ أدمى ركبته و أتلف بنطاله ...
عاد ساخطا لاعنا ، لم يهتم للنزف و الكدمات التي اصابت ركبته و مرفقيه ، فمناطق عديدة من جسمه الغض كانت تشهد على جروح أو كدمات مماثلة، ما أحزنه حقا هو خسارته لبنطال " الحطّة".
Post A Comment: