الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ذهاب وعودة" 


الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ذهاب وعودة"


أجواء من التسامح والسلام النفسي بعد نوم عميق لم يشوبه أي قلق أو إضطرابات  .خرجت  للفراندة أستنشق نسيم الصباح الندي ، وأنا كلي أمل وحيوية،قمت بعمل بعض التمارين الرياضية ،ثم  شربت كوبا كبيراً من اللبن المضروب بالبيض النيء . كان البيت خاليا إلا من بعض الكراكيب هنا وهناك. كأني أتيت في زيارة إضطرارية عبر آليات مختلفة ومتداخلة ، أو ربما كنت أحلم .لكن لم يكن  هناك أي أحد ، سكان المنزل غائبون أو ربما سافروا  إلى مكان بعيد .دخلت الحمام ثم خلعت ملابسي، وفتحت الدش ،شعرت براحة ودفء غاية في العجب، وددت ملتاعا لو قضيت ساعة بأكملها إلا أنني خفت ،  إرتديت  ملابسي وخرجت مسرعاً، لأفتح الفراندة الخلفية لسبب خفي غامض لم أتبينه حينها  ،فلم أجد غسيلا علي المنشر ،كانت الحبال وحيدة خالية ،والشمس كأن وجهها يضحك في وجهي . دخلت المطبخ فوجدت نملية قديمة متسخة عليها دهون بنية غامقة ، وتعود، تقريباً، لأيام الطفولة ،ووجدت علي الأرض أيضاً باجورا متهالكا ،وبجانبه طشت صغير  وقطع صابون متجمدة لكن لم تفقد بعد رائحتها القوية النفاذة.شعرت بضيق لأن أصحاب المنزل غائبين،وفكرت أن أعود إلي حيث كنت قبل الحلم ،حتي لمحت زجاجة بيرة فارغة أسفل الحوض ،ففرحت وهممت بإلتقاطها ،ثم رحت أتأملها وأنا أضحك، تحسست بأناملي ملمس الزجاجة الناعم والمترب في آن واحد ، وأنا أتعجب من صورتي صبيا،والتي إنعكست،فجاءة، علي زجاجها الأخضر .تركت المطبخ ،وخرجت للصالة فوجدت مكتبة خشبية قديمة وبداخلها  مصحف كبير ذو غلاف أحمر،ومكتوب عليه بماء الذهب  المنتخب،وتحتها "  الجمهورية العربية المتحدة ". شعرت بإرهاق مفاجئ ،كما لو كنت قد مشيت مشوارا طويلاً ،ثم نال مني التعب .وقفت علي عتبة الباب وأنا حزين لا أدري ماذا أفعل؟هل أقوم بشراء أثاث جديد للمنزل ؟ولكن ماذا عن أصحاب المنزل؟متي سيعودون من سفرهم؟هبطت درجات السلم وأنا أتخفف، تدريجياً ،من التعب ،تذكرت في غمرة زيارتي المفاجئة متحف روميل وميعادي هناك مع صديق قديم .وقفت علي الرصيف المقابل لنادي الشبان المسلمين أنتظر ركوبة ،وكان عدد المارة قليل جداً ،فطالعتني عن بعد كرتة والحمار يأتي بأقصي بسرعة من بعيد ،ويجلس في المقدمة طفل صغير لم يتعدي الحادية عشر  ،ذو شعر بني ناعم ومسدل حتي الكتفين مع إصفرار بسيط عند الأطراف،  يرتدي  جلبابا رصاصيا،فمه صغير وأنفه دقيق وعيناه عسليتان . توقف وحده دون أن أشير له .ركبت وطفق الطفل يضرب علي ظهر الحمار بعصا رفيعة، لينطلق الحمار مسرعاً ،حتي لفحني الهواء البارد و رائحة روث الحمار فصمت . إخترقت الكرتة شوارع  مرسي مطروح بسرعة كبيرة، كأني أشاهد فيلم  ألس في بلاد العجائب عن قرب من فتحة الكرتة،والتي تحولت إلى شاشة عرض متوسطة الحجم  ،تظهر بيوت وقصور  وبشر وحيوانات ثم تختفي وتظهر أخري،تختفي أشجار وعمارات وتظهر أخري ،من شارع الجلاء إلي شارع الإسكندرية،ومنه إلي شارع عالم الروم ثم إلي شارع مدرسة الشهيد المعناوي الإعدادية ،حتي وصلنا إلى الممر المؤدي إلي جبل روميل علي البحر ، ثم وصلنا إلى الجبل نفسه ،وتملكتني،علي الفور ، هيبته وسلطانه ،وددت من داخلي لو صعدت قمته وجلست مثل الواصلين  .هناك توقف الطفل ،ونزلت دون أن اعطيه أجرته دون قصد مني  ،فهم  الطفل ،لكنه لم يكترث،وضرب الحمار ضربة واحدة بعصاه ،فتحرك الحمار خطوتين للأمام،  ثم إستدار الطفل بحرفية وهو ممسك باللجام  عائدا .كان صديقي يقف في إنتظاري علي بوابة المتحف، وهو غاية في الأناقة،قميص لبني مكوي وبنطال كلاسيك أزرق وحذاء أسود، وجهه ممتلئ ويداه ناعمتان كأنه أحد وجهاء المدينة ،بعينيه السوداوين بريق يشي بخبرة كبيرة وحزن أعرف في أعماقي علته .مد يده ليسلم علي  منحنيا ،كمن كان  ينتظر مسؤول كبير ،ثم أفسح لي الطريق وهو يشير بيده .دخلنا المتحف ووقفنا أمام عرض مجسم لخوذة حربية وبزة لأحد الضباط الألمان .لاحظت أن صديقي نفسه قد ناله جانباً من الإرهاق لا أدري سببه؟،ثم توجه إلى بالسؤال:ماذا فعلت ؟قلت له أنني لم أجد أحداً، وأن البيت بحاجة لأثاث جديد .ربت علي كتفي قائلا: تلك هي الحياة قصيرة جداً يا صديقي..في قلب تلك الصحراء إنتهت الحرب العالمية الثانية!. قلت له أنني حزين أيضاً لأنني لم أعطي الطفل حقه ،ضحك ثم قال :هو حزين لأنك لم تكلمه طيلة المشوار ،لهذا فكر أن يشعرك بأهميته فعاد دون أن يطالبك بالأجرة .خرجنا من المتحف وجلسنا علي الرمال أمام البحر . أخرج صديقي نوتة زرقاء صغيرة ثم فتحها وكتب بخط جميل ومنسق (الآن أحبك، وذلك لأنني لم أكرهك قط ،وكنت أكره ،فقط،  نفسي  ، الآن أحبك)شعرت بأن الزمان ينطوي بيميني ،ووسعتني بهجة كبيرة وحنين جارف لم أشعر بهما منذ سنين ،بهجة وحنين القلم والكتابة .قلت له :لن أعود من الحلم ثانياً ، ساشتري دستة اقلام ودستة كشاكيل، وسأكتب.  لقد إستعدت ، أخيراً، الحماسة ، إستعدت الولع .قلت لصديقي بإنفعال :أكره هذه الثورة الرقمية المخادعة،لقد سرقت منا أعز ما نملك..سرقت منا حريتنا...عزلتنا أكثر مما جمعتنا ، قل لي :ما قصة هذا الكي بورد (لوحة المفاتيح) المزعوم ؟  .نهض صديقي ،فجأة، وهو ينفض بيده الرمال من علي ملابسه وودعني بإشارة من يده، وهو يبتسم .قلت له وقد أجتاحني قلق مباغت  : لا تمشي ياصديقي... أرجوك... إنتظر !.







Share To: