الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "يوم وفاتي"
وضع التابوت الخشبي أرضا ،كان باردا في ذلك اليوم شديد القيظ.كان يحمله اناس لم ألتق بهم يوما في حياتي ، ...اصطف الجميع خلفي اربعة صفوف لصلاة الجنازة . كنت اسمع دعاءهم لي بالمغفرة والقبول ومنزلة خير من منزلتي وتثبيتا عند السؤال... لقد اوشكت اعينهم ان تنضب من فرط البكاء حتى اني اشفقت عليهم وانهمرت آخر قطرات الماء من عيني شبه المغمضتين . لم اكن اعرف منهم سوى ثلاثة انفار امي وابي ومعتوه القرية الذي عادة ما يقابلني بابتسامة كلما اعترض سبيلي ، الوحيد الذي لم يبك بل اغمض عينيه و وتمتم بدعوة واحدة ثم سكت ملتزما بآداب الصف و "حرمة الميت" : اللهم اجمعني به قريباً "
انتهت الصلاة و تقدم الاربعة الذين لا أعرفهم ثم حملوني مجددا وساروا بي يمينا بضعة امتار أين تفنن آخرون لا أعرفهم أيضاً في حفر قبري وبالغوا في حفره . تقدم إمام القرية الذي لم أره منذ آخر جنازة ، كان قد تزين برداء أبيض وعمامة وقد فاح عطره وانتشر في أرجاء المقبرة ، ...هو لا يصلي سوى الجنائز . هبط للقبر و قال بصوت يملؤه الوقار والخشوع:
ارجوكم تراجعوا ولا يبقى منكم سوى من سيناولني المرحوم ، إن للميت حرمة ولا يجوز ان يطلع الجميع عليها ، هو الآن ملك خالقه ولم يعد منا "
امتثل الجميع وبقي أولئك الأربعة الذين لا أعرفهم . اسقبل الأمام القبلة ثم وضعني على جانبي الأيمن و هز رأسي قليلا بطوبة صماء . ثم كشف الغطاء على وجهي قليلا وهم بالخروج ...
ما إن خرج الأمام ووضعت رخامات اسفلتية فوق قبري حتى انهال عليه أولئك بالتراب في عجلة من أمرهم ... لازلت اسمع بكاء احدهم حينما خف الضجيج و همدت الحركة. كان صديقي المعتوه يبكي بحرقة لم اعرفها من قبل ،لقد كانت الابتسامة لا تفارقه . لا احد يكترث لأمره بل غادر الجميع فور انتهاء الدفن.
في لحظة لم أعرف كيف حصل ذلك، فك وثاقي وانتصبت قائما داخل قبري وقلت : " ما الذي يبكيك يا صديقي ؟ "
أجابني دون جزع ولا خوف وكأنه كان ينتظر سؤالي : " صرت وحدي ولا أحد يكترث لحالي"
كان حينها الوقت قد تغير مفهومه عندي وصرت أعلم مسبقا مالذي سيجري من احداث بعد عودة الجميع الي ديارهم ،...لقد هرع الجميع لتناول ما لذ من طعام اعد على شرف الوفاة ...ثم انصرف كل لشأنه الذي يغنيه... هذا لتجارة يصيبها أو زوجة ينكحها و آخر لعامل فقير يضطهده ويقتر عليه رزقه أو نزاع على قطعة أرض توارثت العائلة مشاكلها منذ سنين ولا أحد سعى في طريق تجاوزها ...
قلت له لا تخف يا صديقي سيأتي يوم ويكترث لك ويبكي على رحيلك الجميع وتجتمع حولك المئات كما اجتمعوا اليوم لدفني ...
Post A Comment: