الكاتبة الصحافية المصرية / رانية لبيب تكتب مقالًا تحت عنوان "هجرة الرسول"
الحديث عن حدث من أعظم الأحداث في تاريخ البشرية ألا وهو هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. هذا الحدث لذي يراه المؤرخون المسلمون أهمَّ حدث بعد بعثةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عاش الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أيامًا صعبة بمكة المكرمة منذ بداية جهرهم بالدعوة الإسلامية وتعددت أساليب أذى المشركين وصدهم لهم، فما تركوا شيئًا يؤذيهم إلا وفعلوه، لكن كل هذه المحاولات لمنعهم عن نشر الدعوة باءت بالفشل ولم تؤت أكلها.
أصبح العيش في مكة صعب فهاجر بعض الصحابة إلى الحبشة بحثًا عن الوطن الآمن، لأنهم أصبحوا لا يطيقوا العيش بمكة.
توالت الأحداث العصيبة على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بقي من الصحابة ابتداءا من محاصرة شعب ابي طالب ومقاطعتهم اقتصاديًا واجتماعيًا ثلاثة أعوام متتالية، ثم موت ابو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو بمثابة ذراعه اليمنى، وموت زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
فكان عامًا حزينًا ازدادت فيه جرأة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرر أن يذهب للطائف يدعوهم للإسلام، ولم تكن أحوالهم افضل من مكة، بل طردوا نبي الله صلى الله عليه وضربوه وادموه وعاد مهمومًا إلى بلده، وتعرض كل من آمن به التعذيب والتنكيل كما فعل ببلال بن رباح وبآل ياسر رضي الله عنهما.
عندئذ علم الرسول صلى الله عليه وسلم انه لم يستطيع إقامة دولة للمسلمين وسط هذا الرفض الشديد من المشركين، فكان ذلك هو سبب هجرة الرسول إلى المدينة ونشره الإسلام خارج مكة المكرمة.
واشترك معه الكثير من الأوس والخزرج في الإسلام وبايعوه بيعة العقبة الأولى والثانية وعاهدوه على على نصرة الإسلام، مما أدى إلى اجتماعات كثيرة للمشركين وسادات القوم منهم محاولين بها إيقاف الرسول صلى الله عليه وسلم عما يفعله من نشر الإسلام والجهر بالدعوة هو والصحابة. فاشاورا بحبسه واخرى بقتله، فاستقر بهم الرأي على أن يجتمع من كل قبيلة فتى شابًا، ويضربوه ضربة واحدة، فيضيع دمه بين القبائل فلا تغضب له قبيلته بنو هاشم.
ثم تركوا الصحابة مكة المكرمة لاحقين بأنصارهم من اهل المدينة وتركوا مكة افرادًا وجماعات تاركين خلفهم بيوتهم واعمالهم وعشيرتهم من أجل نصرة الدين الإسلامي، وبقي في مكة الرسول صلى الله عليه وسلم وابي بكر الصديق والقليل معه منتظرين نزول الأمر بالهجرة من السماء.
أنزل الله تعالى وحيه لرسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام بما خطَّطت له قريش من قتله، فأمره جبريل ألَّا يبيت في فراشه الليلة، فجعل عليَّاً بن أبي طالب رضي الله عنه خَلَفَاً له في فراشه، ومتغطِّياً بنفس بردته، ولمَّا اجتمعوا ببابه متقلِّدين سيوفهم، خرج عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحفن في وجوههم حفنة ترابٍ، فعُمِّي عليهم ولم يروه خارجاً، وهو يتلو قول الله تعالى-: (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، وقد كانوا يرقبون النَّبي بين الحين والآخر، إلى أن طلع عليهم الصَّباح فعلموا أنَّ النَّائم ليس محمّداً، فخابت ظنونهم وعلموا أنَّه قد خرج من مكَّة.
خرج النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام في هذه الليلة متَّجهاً إلى صديقه أبي بكر، وأَنْعِم بها من صحبةٍ! فقد كان متشوقاً لمرافقة النَّبيِّ إلى المدينة، وكان قد أعدَّ راحلتين للخروج منتظراً الأمر الرَّبانيَّ، وقد روت السَّيدة عائشة رضي الله عنها مجيء رسول الله إلى بيت والدها، فقد كان يأتيهم في وقتٍ معلومٍ، لكنَّ هذه المرَّة جاءهم على غير المعتاد، فعلموا أنَّ هناك خطباً ما.
فأخبره رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام بأمر الهجرة، فبكى أبو بكر فرحاً لهذا الخبر، فجهَّزت بنات أبي بكر عائشة وأسماء طعاماً لوالدهما ونبيِّهما ووضعاه في جراب، وشقَّت أسماء نطاقها لتضع فيه الطَّعام، فسمِّيت لذلك ذات النِّطاقين، وكان أمر الهجرة سرّاً لم يعلم به إلَّا أبا بكر وأولاده وعليّاً الذي تركه رسول الله خلفه ليُرجع الأمانات لأصحابها.
لمَّا طلع الصَّباح ولم يجده المشركون في بيته، جعلوا يقتصُّون أثره في أطراف مكَّة، لكنَّ حسن تدبير النَّبيّ والأخذ بالأسباب صعَّب وصولهم إليهما، فقد كان يأتي إليهما في الغار عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بخبر القوم ويجلب لهما الطَّعام، ثمَّ يجعل من بعده راعياً يسمَّى عامر بن فهيرة يمحو آثار الأقدام بغنمه.
لحق المشركون بهما إلى غار ثور، إلَّا أنَّ عناية الله تعالى بالنَّبيِّ وصاحبه جعلتهم لا يرونهم وعُمِّيت أبصارهم عن الصَّاحِبَين، بل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطمئن صاحبه، قال الله تعالى-: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وصل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة المنوَّرة مع أبي بكرٍ والدَّليل ونزلوا في مكانٍ يسمَّى قُباء، وكان ذلك في اليوم الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، وعلى ذلك يكون هذا بدء التَّاريخ الهجري، وقد كان أهل المدينة على علمٍ بقدوم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانوا يخرجون كلَّ يومٍ متشوِّقين لوصول حبيبهم، ولمَّا أحسُّوا أنَّ الأمر قد طال ورجعوا إلى بيوتهم، إذا برجلٍ يهوديٍ رأى رسول الله عند مطلع المدينة فأخبرهم الخبر، فخرجوا فرحين مكبِّرين لاستقباله، فأقام نبيُّ الله مباشرة دولة الإسلام.
كانت الهجرة النَّبويَّة حدثاً فاصلاً وتغييراً جذرياً للإسلام والمسلمين، وبدء عهدٍ جديدٍ لهم، فقد آتت الهجرة ثمارها العظيمة وهي إقامة دولة إسلامية متكاملة، دخول الناس في دين الله افواجًا،وترسيخ قيم التكافل الإجتماعي بين المسلمين على اختلاف أنسابهم واعراقهم.
وقد خلد التاريخ قصة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وانها من أعظم القصص التي لا يمكن نسيانها.
لطالما مهّدت الهجرةُ النبويّةُ بمشقّتِها بناءَ أعظم دولةٍ في تاريخِ البشريّة.
بدايةُ عامٍ هجريٍّ جديدٍ، نسأل الله الثباتَ والقبولَ والرّضا، وأياماً خالية من الفقدِ والهمِّ.. حقّق الله لكم ما تتمنون وآتاكم ما سألتموه.. 🤍
Post A Comment: