الكاتب والباحث والروائي المصري / د.محمد فتحي عبد العال يكتب مقالًا تحت عنوان "ضريح الشبيه وجامع الأفخر"
تحتضن مصر العديد من الأضرحة لأولياء الله الصالحين وأهل البيت علاوة على مساجد تقف شامخة تأسر المآقي وتسحر الألباب فتحفظ الماضي التليد وتنير للحاضر الطريق وكأن القدر اختار مصر دونا عن بقاع الأرض لصون هذا التراث الحافل والثري عبر التاريخ ويغلف هذا التراث دائما سياج من القصص التاريخية الممتدة الحلقات والأساطير الشعبية التي تداعب الخيال وتذوب معها العقول إلهاما وحنينا إلى أزمنة خلابة وعصور شديدة الإثارة ومنها ضريح حلقتنا اليوم ومنه ننفذ للجامع أيضا .
ضريح سيدي يحيى الشبيهي أو السيد يحيى بن القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن على بن أبي طالب وجاءت تسميته بالشبيه لأنه كان شديد الشبه بجده النبي صلى الله عليه وسلم شكلا وصفاتا وكان له خاتم بين كتفيه كخاتم النبوة فإذا رآه الناس علت أصواتهم بالتكبير وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما لقبه الناس بالديباج لحسن بشرته والديباج نوع من الثياب الحريري الفارسي الصنع.
ذاع صيت الشبيهي في الأقطار الإسلامية حتى سما قدره و نما ذكره لحاكم مصر آنذاك أحمد بن طولون ..كان ابن طولون في ذلك الوقت يحاول الاستقلال عن البيت العباسي مع بقاء السلطة الإسمية فقط وهي مسألة ليست بالهينة فقد جلبت عليه العديد من المصادمات مع العلماء مثل قاضيه بكار بن قتيبة والذي رفض لعن الموفق بالله ولي عهد الخليفة العباسي المعتمد على الله والذي كان يمتلك السلطة الفعلية في البلاد فيما كان الخليفة مغلوبا على أمره كما كان تصادم ابن طولون مع الشيخ أبي الحسن الزاهد بنان بن محمد بن حمدان بن سعد، المعروف بالحمَّال لتسامح ابن طولون مع النصارى في دولته وتقليدهم بعض المهام ورغبة الأخير في تطبيق العهدة العمرية مع أهل الذمة !!وكان السجن مآل الشيخين .
صارت شرعية الحكم وإسباغ مركزه المنعة والقوة من المسائل المؤرقة لابن طولون مما جعله يتوجس من كل من حوله وينشر عيونه وجواسيسه في كل مكان يحصون على اتباعه وكبار رجال دولته أنفاسهم إلى الحد الذي جعله يتلصص حتى على كاتبه احمد بن محمد الواسطي وهو أقرب أتباعه إليه وكان له بمثابة الابن يضربه بيده ليعلمه كأبنائه فعين له من يرقبه وينقل إليه أخباره من خاصة خدمه الأوفياء!!.
كان تقريب ابن طولون للصوفيين منه بمثابة الملاذ الآمن الذي يمنحه شرعية الحكم بيسر وسهولة ويرفع مكانته في عيون العامة بحكم ما لهؤلاء من صلة قرابة بآل البيت تجعلهم موضع احترام الناس وتوقيرهم.
من هنا كان إسراع ابن طولون لاستقدام يحيى الشبيهي من الحجاز والحفاوة به فكان دخوله مصر عيدا ويوما مشهودا أحاطه ابن طولون بكل مظاهر الحفاوة .
كانت بركات الشيخ الجليل وصلاحه وطيب نسبه مدعاة لحب المصريين له وتوقيرهم له فلما مات دفن بمشهده الحالي في شارع الإمام الليث بجبانة الإمام الشافعي بمصر القديمة .
وفي عهد الفاطميين كان الاهتمام المتزايد بأضرحة آل البيت فأقيم الضريح للشيخ الراحل يحيى الشبيهي وأسرته متضمنا أكبر قبة فاطمية وهي من القباب المضلعة المميزة لهذا العصر وذلك في عهد الخليفة الفاطمي الظافر بأمر الله إسماعيل أبو منصور وهو أيضا صاحب مسجد الفكهاني أو مسجد الأفخر الواقع بشارع المعز لدين الله وقصة بناء مسجد الأفخر من القصص المدهشة والمبالغ فيها إلى حد وصفها بالأسطورة الشعبية ذلك أن مكان المسجد كان حظيرة ويشاء القدر أن يرى الظافر وقيل أحد خدمه لجزار يذبح خروفاً بسكين ثم ينصرف لحاجة له ليترك السكين فليتقطها خروف آخر ليخفيها هربا من الموت !! وهنا يدرك الخليفة أن ثمة رسالة إلهية خلف الواقعة فأمر بعدم ذبح الخروف الثاني وهدم الحظيرة وأقام عليها مسجدا . و لموت صاحب المسجد الخليفة الظافر أيضا قصة لا تقل طرافة وإثارة ذلك أنه عندما تولى الحكم كلف الأمير نجم الدين سليمان بن محمد بن مصال المغربي الأصل بتدبير الوزارة فساقته أقداره إلى معركة مع والي الإسكندرية والبحيرة الأمير المظفر علي بن السلار الكردي والذي كان يرى نفسه الأحق بالوزارة و انتهى الصراع لصالحه في النهاية . استفحل أمر ابن السلار بعد أن استتب له الأمر في الوزارة وتلقب بالعادل .
واستمر التوجس بين الظافر ووزيره الجديد قائما إلى أن نجح ربيب ابن السلار وابن زوجته القائد عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم الأفريقي المنشأ والي الغربية بإيعاز من الخليفة في قتل ابن السلار غيلة أثناء نومه بيد ابنه ناصر الدين نصر بن عباس وصار الأب عباس وزيرا وتلقب بالأفضل عباس فيما توطدت صداقة وثيقة العرى بين الخليفة الظافر وبين ابنه نصر وأصبحت دار نصر بن عباس والتى سميت بعد ذلك المدرسة الحنفية السيوفية هي المكان المفضل للخليفة لكن سرعان ما انتشرت الشائعات حول وجود علاقة شاذة بين الخليفة وصديقه نصر ووصلت هذه الأقاويل إلى مسامع الوزير الأفضل فآلمته فأمر ابنه نصر بقتل الخليفة دفعا للشبهة ودرءا للفاحشة فاستدرج الخليفة ليلا لداره وطاوعته نفسه قتل صديقه ففعل وألقى جثته في بئر وأشاع عباس وولده نصر أن الخليفة ركب مركبا وغرق لكن الأمر لم ينطل على جند الخليفة وعبيده فثاروا على عباس وولده نصر وطالبوا بالقصاص ففر الأخيران بما تجمع لديهما من المال والجواهر إلى الشام فظفر بهما الفرنج فقتلوا عباس وأسروا نصر ثم قتلوه بعد ذلك .
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
Post A Comment: