غاستون باشلار : أعمال روبير ديزويل (1 /3) | ترجمة: د. سعيد بوخليط
''آه لو تعرف جيدا فتح عينيكَ نحو هذه الكلمة فقط : أن ترتفع"دانتي.
منذ عشرين سنة، اشتغل روبير ديزويل على تحليل نفسي للحلم اليقِظ، أو أكثر تحديدا منهجية تتعلق بتأمل شارد موجَّه يشكل تعليما إعداديا حقيقيا بخصوص تحليل نفسي للصعود. جوهريا، تشكِّل منهجية روبير ديزويل، تقنية للطب النفسي أكثر من كونها استقصاء. تتوخى بالتأمل الشارد المتصاعد، إعطاء منفذ لنفسيات عالقة، وكذا مصير سعيد لمشاعر مضطربة وغير فعالة. شرع العمل بهذه المنهجية داخل العديد من المصحات في سويسرا.إنها قادرة بحسب اعتقادنا،كي تصبح إحدى الطرق الأكثر فعالية بالنسبة لاستحضار الأرواح التي يعتبر شارل بودوان أحد أبرز روادها.
احتضنت أعمال روبير ديزويل مجلة جنيف : الفعل والفكر. مثلما تضمنها موضوع كتاب عنوانه : استكشاف انفعالية العقل الباطني بمنهجية الحلم اليقِظِ. تسام ومكتسبات نفسية. نريد إبراز أطروحات هذا الكتاب المهمة والاستفادة إبان ذلك من شتى المناسبات المتاحة كي نصل بين ملاحظات روبير ديزويل ثم أطروحاتنا الشخصية حول ميتافيزيقا الخيال.
تسعى منهجية ديزويل،كي ترسخ عند الذات الحالمة عادة حُلُمية الارتقاء. تقود نحو تجميع صور واضحة جديرة بإعطاء حركة للصور''اللاواعية" وكذا تعضيد محور تسامٍ تمكنه شيئا فشيئا من الوعي بذاته. يكتشف تدريجيا الكائن من منهجية ديزويل،عمودية الخيال الهوائي،ويدرك بأنه خط للحياة. نعتقد من جهتنا، بأن الخطوط المتخيَّلة تعكس خطوط الحياة الحقيقية، تلك التي تنكسر بصعوبة كبيرة.
خيال و إرادة، مظهران لنفس القوة العميقة. يدرك الإرادة، من يعرف طريقا إلى التخيّل.تلتئم بين طيات خيال يضيء، إرادة التخيّل، وكذا أن نعيش ماتخيّلناه.من خلال التفصيل، حينما نطرح صورا على نحو منظم، نحدد بالتالي أفعالا متماسكة.
عندما نقتفي أثر خطوط صور يقترحها ديزويل، تأخذ الذات عادة تساميا واضحا، سعيدا، رشيقا. هكذا، يتأتى لسعي الحلم اليقظ، توظيف قوى حُلُمية تبعا لانفعالات غير مرتبة، وأحيانا عُصَابية، لصالح حياة واعية أدركت أخيرا المثابرة من خلال أفعالها ومشاعرها، مادامت تثابر عبر صورها. لانخون فكر ديزويل، حين قولنا عن منهجيته، بأنها تعكس تحولا من طاقة حُلُمية إلى أخرى أخلاقية،وفق نفس مصطلحات تحوّل حرارة مضطربة إلى حركة.
يحب الأخلاقيون التحدث عن إبداع معنوي، كما لو أن الحياة الأخلاقية مثلت عملا للذكاء !فليتكلموا بالأحرى عن القوة الأولية :الخيال المعنوي.خيال يلزمه تقديم خط صور جميلة، تنساب على امتداده الخطاطة الديناميكية المتمثلة في البطولة.مثال ذلك، السببية ذاتها على مستوى الأخلاق.
لكن، أيضا أكثر عمقا من الأمثلة التي يتيحها الأفراد، نعاين مثالا تكشف عنه الطبيعة.قد تصبح العِلَّة المثالية، دافعا جوهريا حينما نتخيل الكائن البشري نفسه متفقا مع قِوى العالم. إنَّ من يسعى إلى مماثلة حياته بخياله،سيشعر في ذاته سموا ينمو من خلال الحلم بالجوهر الذي يصعد، ثم يعيش العنصر الهوائي بناء على ارتقائه.مثلما نرى،لن نصادف أيّ صعوبة فيما يتعلق بتأويل أطروحات روبير ديزويل وفق دلالة تصورنا الميتافيزيقي للخيال الهوائي.
بالنسبة للكائن المحتجز داخل عقدة لاواعية،لاتنطوي فقط منهجية ديزويل على وسيلة قصد ''تفكيك تلك العقدة'' مثلما يفعل التحليل النفسي الكلاسيكي،بل يقدم تفعيلا.بينما ينحصر التحليل النفسي الكلاسيكي عند تفكيك العقد ب"تحيين إحساس قديم''دون أن يتيح قط مخطَّطا أمام المشاعر التي تجلت مع ذلك فظَّة وغير ملائمة، سيتحقق التسامي في أقصى حالاته ضمن منظور التحليل النفسي عند ديزويل، وقد أعدَّ لهذا التسامي دروبا للارتقاء ''تجعل الذات تحيا مشاعر جيدة''،ونماذج عن تخليق التعبير العاطفي(ص 55) .يقارب التحليل النفسي الكلاسيكي اضطرابات ضمن التكوين الأصلي للشخصية،بحيث اقتضي منه الوضع،التخفيف من المتبلور حول رغبة لم يتم إشباعها. بينما يحاول التحليل النفسي عند ديزويل – تجدر تسميته تحديدا بالتركيب النفسي- خاصة تحديد شروط التركيب بغية تحقيق تشكيل جديد للشخصية. تمثل في نظرنا، الجِدَّة العاطفية التي أضيفت إلى الشخصية ،الوظيفة الخاصة بالخيال، وتصلِح من تلقاء نفسها ماضيا لم يكن جيدا.
طبعا، يدرك روبير ديزويل بأنه ينبغي لطبيب الأمراض النفسية والعقلية وكذا المربِّي، إزالة مختلف مايعيق التطور النفسي للكائن- تظل بهذا الخصوص مهمة التحليل النفسي مجدية (1) - لكن ينبغي خلال أسرع وقت ممكن اقتراح أشكال مستقبلية لهذا الكائن الذي استطعنا تخليصه من ثقل ماض فادح.
أيضا،في أغلب الأحيان، يشرع ديزويل مباشرة- مترددا بخصوص استضافة الذات إلى البوح بأسرار موجعة- في اقتراح صوره المتعلقة بالتعالي،صور المستقبل. بغير هذا الإيحاء السريع بل والمباشر لصيرورة النمو، فالكائن الذي كابد طويلا جراء أخطائه وأغلاطه ربما تجدد ألمه و يواصل حياته مضطربا. لقد كان قبل العلاج النفسي روحا ثقيلة. لكنه لن يصبح روحا خفيفة بين عشية وضحاها.إذا كانت اللذة طبيعية وسهلة، فيلزم أن نعتاد على السعادة؛ وإدراك مختلف أسباب السعادة الناجمة عن تخفيف عبء الحمل.
أن يتطور مخطط جميل جدا،عبر صفحات كتاب ديزويل، إلى دروس بسيطة للغاية، وكذا تمارين تتجلى- ذهنيا- وفق معطى سهل جدا، ملاحظة تدفع بالتأكيد الفلاسفة إلى صرف أنظارهم عن عمل من هذا القبيل. لكن، ما يبدو سهلا في خضم سيادة المفاهيم، ليس بالضرورة فيما يتعلق بسيادة الخيال.لايتخيَّل من يرغب في ذلك! كما لايتعلق الأمر بتخيُّل أيّ شيء. بدلا من ذلك، تجد ثورة الابتهاج نفسها أمام هذه المهمة الصعبة المتجسِّدة في وحدة الخيال.من أجل ربح هذه الوحدة،وكذا امتلاك الخُطاطة الديناميكية المرشدة نحو السعادة،يجب العودة إلى إحدى المبادئ الكبرى للخيال المادي. لايكمن هنا محدِّد السعادة الضروري، لكنه يبقى أساسيا.يصعب أن نكون سعداء بخيال منقسم. لايمكن للتسامي- مهمة إيجابية للخيال- أن يكون ظرفيا، خليطا، لامعا.ينبغي لمبدأ الاسترخاء، أن تتأتى له إمكانية تتويج هالة مختلف الانفعالات، بما فيها انفعالات القوة.
لنتتبع إذن حسب بساطتها الظاهرة، منهجية روبير ديزويل.
تخلصوا من همومكم،إنها بالتأكيد النصيحة الأولى التي سيقدمها طبيب الأمراض العقلية والنفسية لروح مضطربة. لن يلتجئ قط ديزويل إلى الاستعانة بهذه الصيغة المجردة. طرح مقابل هذا التجريد البسيط جدا، خيالا في غاية البساطة : تخلصوا من همومكم.بيد أنه لاتمكثوا تحت هيمنة الكلمات، فلتعيشوا الأفعال، تأملوا الصور، اقتفوا حياة الصورة. لذلك، يلزم إعطاء الخيال مسألة ''توجيه المِكْنسة''.
أن تتحول إلى إنسان صانع،بمعنى ذاك الكناس المسكين في إطار عمل رتيب جدا! ثم تتقاسم شيئا فشيئا أحلامه، وكذا حلمه اليقظ الموزون. ماذا مسحت؟ هموما أو وساوس؟في الحالتين، لن تكشف عن كنس بذات الطريقة. ستشعر بينهما، بمفعول لجدلية الدِّقة وكذا التصميم .لكن الذي يهدئ روحكَ، ربما ببساطة أزهار عشق ذابل؟ إذن اشتغلْ تبعا لإشارة بطيئة، وحاولْ أن تدرك الحلم المنجز. بما أن كآبتكَ المنتهية ستنتهي نحو الأفضل!ويمضي ماضيكَ بكيفية جيدة! قريبا ستتنفس الصعداء،تكتمل المهمة،الروح المستجمة،هادئة شيئا ما، شفافة شيئا ما، شاغرة شيئا ما ،حرة شيئا ما(2) .
هذا التحليل النفسي التصويري، الصغير جدا، يفوِّض للصور،مهمة المحلل النفسي الرهيبة.أن''يكنِّس كل واحد أمام فنائه''ولن يحتاج قط إلى مساعدة''متطفِّلة''. تميز الصور المجهولة هنا شحنة أن تعالجنا من صورنا الشخصية. تتداوى الصورة بالصورة، يعالج التأمل الشارد الذكرى.
يوجد مثال ثان، ينطوي ربما على إفادة معينة. أيضا، يوظف ديزويل بنجاح ''مسلك جامع النفايات"، بحيث يعتبر أكثر تحليلية من ''مسلك الكناس".يوصى بالأول قصد التخلص من قلق أكثر وعيا إلى حد ما، قياسا لآلاف المتاعب الضمنية،غير المعبر عنها ثم نكتفي فقط ب ''تكنيسها''.
ينصح ديزويل، الذات المنشغلة بقلق معين، كي تلقي به إلى جانب أنواع المتاعب الأخرى، داخل صندوق القمامة، ثم في جيب خلف ظهرها، متفقا عموما مع إشارة يدوية، معبِّرة جدا وفعالة للغاية، تلقي وراء ظهرها ما قررت التخلص منه.
سيتم الاعتراض مرة أخرى بأن إشارة بلا طائل مجرد تصنع، بحيث يتحرر الكائن داخل منطقة أكثر حميمة وسرية.لكننا ننسى بأننا حيال نفسيات لاتقرر بأن تتخذ قرارا، وصماء نحو التأنيبات الواضحة. يصعب ممارسة تأثير عليها سوى حين الانطلاق من سلوك تزيِّنه الصور، نقدم لها إشارات عن الحرية، واثقة تحديدا في الخاصية المتراكمة لنفسية سلوك تشكَّل في إطار توافق صور أولية.
يبقى بالتأكيد النظر إلى التعاقب : إشارة متصنعة وإشارة متخيَّلة. إذا اقتصرت الذات، سيدة صمودها أمام التحليل النفسي،على التظاهر بإشارات موحى بها، ستظل منهجية ديزويل عديمة الفعالية. تتموقع الذات، من خلال التمويه ضمن حالة ذهنية وعقلية، مستعدة للنقد والسجال.بينما لن يتحقق ذلك بنفس الكيفية،عندما تتخيَّل الذات حقا تبعا لوحدة روحها، وتخيَّلت بصدق، ونضيف من باب الحشو،ما جدوى الخيال دون الصدق؟
يتحدد الخيال كنشاط مباشر، فوري، متكامل. مَلَكة يحظى معها الكائن النفسي بوحدة أكثر وخاصة يمسك حقا أثناء ذلك بمبدأ وحدته. بشكل خاص يسود الخيال الحياة العاطفية.نعتقد من جهتنا، بأن الحياة العاطفية لها تعطش حقيقي للصور. شعور تنعشه مجموعة صور عاطفية. تبتغي هذه الصور المعيارية، بناء حياة أخلاقية. يعتبر دائما جيدا منح ''صور" إلى قلب معوز.
تؤكد المنهجية التي يمارسها ديزويل منذ عشرين سنة،على قوة''المسالك التصويرية''. بوسعنا أيضا تقديم أمثلة كثيرة عن السمة التهذيبية لأفعال فيزيائية بسيطة جدا، شائعة بما يكفي.يمكننا إظهار بأن الأدوات، باعتبارها أشياء غير متصلبة، لكنها إشارات جد مرتَّبَة، تستدعي تأملات شاردة نوعية، تقريبا مفيدة دائما، ديناميكية، إنها تأملات شاردة للعمل. ترتبط بها ''أفعال''وأقوال، متصلة جدا، أشعار طَاقِيَة : بوسع نظرية للإنسان الصانع الامتداد غاية سيادة القصيدة. قصيدة سعيدة دائما. خَلْق نظرية للذكاء وكذا المنفعة، يعني انحيازنا فقط إلى جانب من الأشياء. العمل، مصدر تأملات شاردة لامتناهية قدر كونه منبعا للمعارف. الأداة- الجميلة والجيدة- ''صورة ديناميكية''، بوسعنا استخدامها سواء ما يتعلق بنظام الخيال وكذا نظام القوة. في إطار العمل، مثلما على مستوى الترفيه، تتسع ملحمة الأحلام.
أن يتم اقتراح صور للحرية بدل نصائح تهم حرية خيال الذات،يتطابق أيضا مع مبدأ تلزمنا الإشارة إليه : يستبعد ديزويل إيحاء التنويم الميغناطيسي. بالتالي، يكون منسجما مع المبدأ الأساسي لمنهجيته. طبعا، يتعلق الأمر بإثارة تسامٍ مستقل سيشكل تربية حقيقية للخيال. يلزم، إذن استبعاد التنويم المغناطيسي الذي تصاحبه غالبا فقدان للذاكرة، بالتالي لايمكنه أن يكون تهذيبيا.هنا، يتجلى اختلاف آخر بين التحليل النفسي الكلاسيكي والتركيب النفسي عند ديزويل.
أساسا، منهجية ديزويل تساميا واضحا، واعيا وفعالا.إبان استراحة روح الذات، يلتمس ديزويل بالتأكيد وضعية خمول كي لا تنزاح الذات عن وجهة الصور الأولية البسيطة جدا التي ستنكشف أمامها. لكنه يوضح بأن هذا الانتباه السلبي يختلف كليا عن وضعية سذاجة التنويم المغناطيسي(ص 37 )''حالة لا تتوافق مع الاحتفاظ بذهن سليم''.
حينما يصبح الفكر مهيأ إلى الحرية، وقد تخلص قليلا من متاعبه الأرضية، بوسعنا حينئذ البدء في تمرين الارتقاء المتخيَّل.
هكذا يقترح ديزويل على الذات، بأن تتخيَّل نفسها تصعد دربا يميزه منحدر سهل، دربا منبسطا جدا، دون هاوية أو دوخة. هل في وسعنا ربما الاستعانة بتؤدة إيقاع السير كي نشعر بجدلية الماضي والمستقبل والتي لاحظها فعلا رينيه كروفيل (جسدي وأنا، ص 78 ) : "تستدعي إحدى قدمي الماضي، بينما الأخرى موصولة بالمستقبل''.لكننا نضيف هذه الإشارة بتردد، مادمنا لم نتمكن فعلا من تجميع مفاهيم الإيقاع وكذا الصعود. يبدو، بأن الحلم يضعف رجَّة الخطوات المتخيَّلة. ولايصادف أحيانا صعوبة معينة كي يخضع سيره لإيقاع ناعم . يحقق هذه المعجزة التي يعيشها كل حالم هوائي، وفق إيقاع يندرج في إطار الاستمرارية. يبدو بأن تنفُّسا سعيدا ينتمي إلى مصير للتعالي.
هوامش :
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp129-139.
(1)عبر صفحات كتاب يصدر قريبا، يضفي روبير ديزويل علاقات متكاملة على أحلام يقظة موجَّهَة، لدى مرضى خاضعين للعلاج.عمليا، بغير التحليل النفسي، نعيد فقط إرساء ''وظيفة التسامي".
(2)نيتشه، أستاذ التصوير المعنوي،سيكتب بين صفحات عمله"المعرفة المرحة" (ص 396) :
إذا سمحتم !سأمدكم بيد العون
لقد تعلمتُ الاستعانة بالإسفنجة وكذا المِكْنسة
باعتباري معاتِبا ورجل العناء.
Post A Comment: