الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (كريم بوشارب.. عدسة تغني لليل والريح)

للصورة أكثر من لغة وأعمق من معنى قد يجمع حولها القلوب دون أن تهمس ببنت شفة، فهي تعني ما وقع في النفس وأيقظ الذاكرة وشابه الروح، هي غصنٌ من شجرة الحياة لا يقدر سوى القليل على أن يجعل منه ناياً يشدو بأبيات الشجن ونوتات الحنين التي تسبر أغوار البشر.. لذا كانت ولازالت وستظل الصورة بألف كلمة وألف قصيدة وألف أغنيةٍ تتأرجح بين قارات الأحلام الفسيحة التي لا حروف فيها ولا أرقام وتحمل من رؤية صاحبها وإبداعه ما يحكي عنه كالمصور الجزائري كريم بوشارب..

تمتاز عدسته بشاعريتها والتصاقها بالليل وحديث النفس ولحظات الصفاء التي لا يخترقها انسان، وقد لا يحتاج أي منا فيها إلى أحدٍ سوى نفسه أو ربما أيضاً إلى شخص ٍيكون له بمثابة مرآةٍ يرى فيها انعكاسه دون أن يخبرها بما تشعر، فتأخذه من يده ليسيرا معاً في صمتٍ وتناغم إلى مكان لا يعرفانه أو يتوقعان أن أقدامهم ستأخذهم إليه، فأعماله المختلفة تجسد حالةً من الشفافية والإتساق مع الذات بعيداً عن صخب الألوان والمؤثرات التي قد تأخذ من قيمة الأعمال وجوهرها وإحساسها دون أن تضيف شيئاً إليها، لتقطع بنا تلك المسافة التي تفصلنا عن لقائنا بقلوبنا التي نخبأها في مكانٍ آمن بمنأى عن أيدي البشر التي تخنق كل إحساسٍ جميل، ويعطيها فرصة التوهج في مكانها الصحيح بين رحاب الطبيعة التي يمكننا أن نبوح لها دون خوف وبكل تجرد..

فنلاحظ حرص كريم بوشارب على أن تكون أغلب صوره باللونين الأبيض والأسود وكأنه يود توجيه عين المتلقي إلى ما هو أبعد من المشهد الذي يلتقطه، وكأنه يصل كلاً منا بتاريخه وحكايته الشخصية وذكرياته والأماكن التي كان فيه (نفسه).. بلا قناع وعلى سجيته وهو أشد ما نفتقده اليوم، حيث يعاني الكثيرون من الإغتراب بين الناس وحتى عن أنفسهم فلا يكونون أقرب إليها إلا على قارعة الطريق أو بصحبة القمر أو تحت ظلال الشجر، وسط ذلك الحضور الذي يصل البشر بكل ما هو طبيعي وبعيد عن ما صنعته أيديهم التي أتقنت الشكل والتصنيع لكنها تجردت من المشاعر فكانت سبباً في عزلته ووحدته وتغير نظرته إلى كل شيء..

ومع أننا اليوم نشهد استخدام التقنيات والألوان بشكلٍ غير مسبوق وأحياناً (غير موظف أو متناسق) مع الفكرة التي تطرحها الصورة، تأتي أعمال كريم بوشارب وكأنها تسبح عكس التيار أو تمشي في طريقٍ خاص بها دون أن تتأثر بما تغص به الصفحات والمواقع من أفكارٍ يتم تقليدها واستنساخها بإستمرار، فهذه الصور ليست ككتابٍ مفتوح لمن يتأملها كونها تحمل شيئاً من الغموض، ويمكن أن يشعر بها كل متفرج حسب ما يمليه عليه شعوره أو أن يراها من زاويةٍ مختلفة في كل مرة، خاصةً أن وجود الإنسان فيها هو وجودٌ رمزي وبعيد غير واضح المعالم لصالح الطبيعة التي بإستطاعتها وحدها أن تصنع لحظةً فريدة وشفافة بين المرء ونفسه ..

ولربما كان الإنسان الذي يحاول إثبات تفوقه وسط هذا السباق المحموم مع كل ما حوله في أشد الحاجة إلى لحظةٍ يتوقف فيها ليتنفس بعمق ويتأمل حياته، ويمعن النظر في تفاصيلها الصغيرة التي سقطت منه سهواً فسلبته الكثير، وقوضت عاطفته وأخذت منه السلام الذي يحتاجه في أعماقه، والذي ربما تدفعه صورة أو لقطة صادقة وحقيقية إلى اليقظة والتفكر واستيعاب أهمية الحوار مع النفس ومع كل ما حوله بروحانية لا يخالطها حضورٌ للمادة، وبلغةٍ لا تعتمد على الأحرف قدر إتقانها لأبجدية الصمت التي تنقي النفس والذائقة والفكر، وهو ما تتسم به أعمال المصور الجزائري كريم بوشارب وتميزها عن غيرها كونها غارقةً في الإنحياز للقلب دون القالب، جاعلةً من الإحساس بطلاً مطلقاً يقود أعماله فيختار لها مسارها ويبني بيتها من قصائد وأبيات لا تهتز للريح بقدر ما تغني لها..

خالد جهاد..