الكاتب والمترجم المغربي /  كريم الحدادي يكتب نصًا مترجماً من كتابه "فلسفة الحرب، بحثا عن سلام كوني"


الكاتب والمترجم المغربي /  كريم الحدادي يكتب نصًا مترجماً من كتاب "فلسفة الحرب، بحثا عن سلام كوني"


 

عنوان الكتاب: "فلسفة الحرب، بحثا عن سلام كوني"

Karim EL HADDADY, Philosophie de la guerre à la recherche d’une paix universelle. Editions Edilivre, 2020(Manifeste)

 عنوان الفصل المترجم (بتصرف)

 إلى العربية:

" La guerre est un suicide radical"

"الحرب انتحار جذري"

.

لنفترض أن جميع الناس، بدون استثناء، يؤمنون بفكرة الحرب؛ أي أنهم على استعداد دائم لممارسة العنف. لن يبق أحد على الأرض. إذا تقاتلت العائلات و الشعوب و دخل العالم بأسره في صراع؛ إذا كان الكل غير ابه بالكل؛ إذا عمم  اليأس و فرضت العدمية نفسها؛ من يا ترى سيربح؟ يربح ماذا؟ الحرب؟ الحرب لا تربح (بضم التاء). بالمقابل، الكل سيخسر!

سيخسر الأغنياء ثرواتهم و الفقراء بيوتهم؛ ستخسر النساء جمالهن و الرجال عزتهم و كرمهم؛ سيخسر العجائز حكمتهم و المجانين أبعادهم. سيخسر الصغار ابتساماتهم، طفوليتهم، و الكبار مستقبلهم. سيخسر الكتاب كتبهم و الفلاسفة فلسفاتهم. على أية صورة يمكن أن نتخيل العالم؟ صحراء قاحلة، فارغة، خاوية على نحو سيء، لوحة تشكيلية تحت عنوان "نهاية التاريخ"؟ كما ادعى فلاسفة ما بعد الحداثة؟ التدميريون؟

تمنيت،  و أنا أتحدث عن الحرب، لو كنت خبيرا في "التنمية المستدامة"، لأكون أكثر دقة. لكن، أولئك الذين يدعون إلى الحرب، و يعلنونها ، بالرغم من كونهم خبراء في "التنمية المستدامة"، لا يخجلون من دق الأجراس و إعطاء الأمر بالتدمير. ربما لا يعلمون بأنهم بصدد تدمير العالم: "أرض تم إعادة إصلاحها."

 

هناك، بدون شك، أكاديميون تناولوا هذا الموضوع، لذلك ألتمس من القارئ أن يتحمل ركاكتي. لكن، لا يفوتنا أن نشير إلى نقطة مهمة، تتجلى أساسا في كون خطابات المسؤولين بصفة عامة، تشكل مادة دسمة لدراسات و أبحاث الأكاديميين. بالمقابل، نجد في دراسات الأكاديميين نوعا من الانصياع لمشاعر المسؤولين. فأما ما يطمح إليه هذا الباحث، فهو الظفر بلقب " عالم اجتماع" أو "محاضر" أو أستاذا جامعيا،  يشار إليه بالبنان، في  حين إنه لا يعدو أن يكون وسيلة اشتغلت لصالح صاحب الخطاب، و تخلصت من الأكاديمي و عالم الاجتماع في ان واحد و أدخلته خانة "المثقفين الخونة". كما قال "جوليان باندا".

ليست الحرب ظاهرة سوسيو-سياسية فقط مادام أنها  ناتجة عن قصور  في الفكر. يقول " لودفيغ فيتغنشتاين ": "لا يستطيع فكرنا أبدا أن يفكر في شيء فاسد منطقيا، لأنه إن فعل، يكون قد فكر تفكيرا فاسدا منطقيا..."[1]. فالحرب إذا و بهذا المعنى شيء "فاسد منطقيا" لأنها نتيجة لطريقة تفكير "فاسدة منطقيا" ". و مع ذلك فهي جديرة باهتمام وسائل الإعلام "الجماهيرية" و "النخبوية" على حد سواء. صحيح أن العالم له كل الحق في الاطلاع على ما يجري في أنحاء المعمور، شغفا و فضولا و دراسة و بحثا و تأملا. لكن إلى متى ستظل وسائل الإعلام  تسترزق على الأنقاض؟  أقصد أنقاض الإنسانية. تقول إحدى النساء التي استجوبتهن الكاتبة و الصحفية البلاروسية، الحائزة على جائزة نوبل للأدب، سنة 2015 "سفيتلانا اليكسييفيتش"  ضمن كتابها : "ليس للحرب وجه أنثوي":

"نحن كنا نموت هناك بينما كانوا يشاهدون هذه الحرب على شاشات التلفاز، لقد كانت الحرب بالنسبة لهم مجرد فرجة، أتصدقون؟ كنا نموت وقد كانت مجرد فرجة ".[2]  

 

"روبورتاجات" هنا و هناك، تباع بآلاف الدولارات، لكي تعرض لنا بدون خجل وضع أهل أرض طمست  (بفتح الطاء) معالمها القنابل و الغارات. تقول الكاتبة: "إن الله لم يخلق الإنسان كي يطلق النار، بل خلقه ليحب." غير أن هذا الإنسان يتعدى الحب و الله في ان واحد، إلى الحرب. ما السبب في ذلك؟ يقول الفيلسوف الفرنسي "Jaques Bouveresse" في حوار أجراه معه "Jean Jacques Rosat'':معلقا  على خيبة أمله في  العلوم الإنسانية المدعوة إلى  تنظيم وعقلنة العلاقات البشرية:

" كل توضيح قد يصبح بسرعة عذرا: يستمر الناس في التصرف كالسابق، لكن و هم يعون ذلك، فلا يجدون حرجا في الاعتراف قائلين: "نعم، هكذا... لا نستطيع فعل أي شيء حيال ذلك." أعتقد أن تطور مجالات البحث من قبيل علم النفس، التحليل النفسي، علم الاجتماع، إلخ، ساهم لسوء الحظ، في نزع المسؤولية و رفع الذنب عن الفاعلين. إننا نريدهم أن يتصرفوا بطريقة أخرى- لائقة- غير أننا، في نفس الوقت، نشرح لهم كيف إنهم لا يستطيعون ذلك غالبا. و النتيجة هي إنهم ربما يهتدون إلى التفكير بطريقة مختلفة، لكنهم لا يكفون عن التصرف كما السابق"[3] (مترجم عن الفرنسية).

و بما أن الحرب تعني العنف - بحيث في "غياب العقل الأول ينمو العنف    [4]، كما قال "توما دوكونانك"،-  و غياب العقل يعني غياب الثقافة و في غياب الثقافة، يستحسن عدم الحديث عن الإنسان- فإن كل الوسائل التي تستند إليها، بما في ذلك الأيديولوجية، تهدد الوجود البشري في كليته. إنه ليس هناك سوى "العنف أو الثقافة ".

في المقابل، و ما دامت العلوم الإنسانية عاجزة على تهذيب الروح الإنسانية و ترويضها،  كما قال "بوفريس"، و هي التي أخذت على عاتقها- العلوم الإنسانية- التقرب من الوعي البشري و اقتراح سبل أكثر عقلانية للرقي بالعلاقات بين البشر، فإنها تبدو في حاجة دائما إلى كوارث و مصائب بشرية و طبيعية على حد سواء، لكي تجدد أساليبها و مناهجها، و بالتالي، إشكالياتها و مجالات بحثها. يقول "هاشم صالح، "، ضمن كتاب: "الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي":

"الكارثة وحدها أو الزلزال قادران على زحزحة السؤال. الكارثة وحدها قادرة على فضح بداهة السؤال، على إماطة اللثام عن وجه السؤال. لهذا السبب يبدو الفكر- في أوله- بمثابة فضيحة. كل فكر لا ينشب، لا يعري، ليس فكرا".

الحربين العالميتين الأولى و الثانية، حرب فييتنام، الحروب الصليبية، حروب الشرق الأوسط، الحرب الاسبانية الأهلية، إلخ، بغض النظر عن أسبابها، و ذرائعها، ألم تدمر نصف الكرة الأرضية؟ مات أبرياء بالمجان. ماتت نساء، أطفال، حيوانات، ورود؛ لقد تم اغتصاب حيوات بكل وحشية. و الأكثر من ذلك أن من بين هؤلاء الموتى "غرباء" كانوا يستعدون للعودة إلى الوطن. عودة من شأنها أن ترسم الابتسامة على أوجه أفراد عائلة  فقيرة هناك بإفريقيا؛ ربما كان ضمنهم سياح  أيضا و بيولوجيون في مهمة: يجرون أبحاثا عن نباتات أعدمتها الحرائق و أبادتها القنابل و لم تعد.

 

كنت دائما أسمع على أمواج الإذاعة الوطنية أخبارا عن موتى و جرحى في العراق و فلسطين. كانت هناك عبارات حفظتها عن ظهر قلب، و رحت أقلد المذيع و أنا أرددها: " لقى ستون شخصا حتفهم و أصيب العشرات بجروح خطيرة اليوم بقطاع غزة..."؛ "  ثلاثة موتى و عدد من الجرحى إثر انفجار سيارة مفخخة ببغداد...".

و عندما أتقمص دور أحد أفراد ضحية ما- بحيث كنت أشعر بواجب التضامن تجاه هؤلاء المعذبين في الأرض- كنت أردد:

"هذا غير منطقي. يجب أن توقفوا الحرب. إنه الجهل عينه. إنها اللاإنسانية بحذافيرها. تدخلكم في الطبيعة سيء. قراراتكم غير استراتيجية. سياساتكم براغماتية. لا أحد طلب منكم أن تدلوه على الطريق. الكل يملك عقلا و عيونا. لا أحد يهتم بأسلحتكم. لا أحد يطمح أن يصير جنديا. لا أحد يجرؤ على قتل طفل. إنكم جديرون باللوم و العتاب. إن أفضل جنودكم كان يطمح أن يكون ربان طائرة (مدنية) أو مهندسا."

هذا الخطاب المرتجل، (بفتح التاء) لأم فقدت أبنائها الثلاثة و زوجها في ان واحد، كان يسبب لي نوعا من الشفقة، الضعف و الرغبة في رد الدين. لذلك قررت أن أكتب في موضوع الحرب. و نحن الآن بتاريخ فاتح يناير 2020، الذي يوافق تاريخ خروجي إلى هذا الوجود، أوشك على إنهاء فصل اخترت له عنوان: "الحرب انتحار جذري". ما معنى ذلك؟

إن ما يجب الانتباه له، هو إن الحرب لا يمكن أن تكون انتحارا جذريا، إلا إذا كان العالم يعي ذلك. يعي معنى الحياة. معنى الربيع و الهدوء، معنى الإنسانية و الحب. إننا نكان نشهد في عصرنا هذا، عصر "الحداثة السائلة" كما سماها " زيجمونت باومان "، يكاد يصعب علينا الشعور بالأمن و الطمأنينة، إنها مفاهيم التهمتها الأخلاق السائلة. بحيث إنه طالما لا نعي ذلك، فالحرب لا تعدو أن تكون بالنسبة لنا سوى حالة عرضية، "فرجة"، "سحابة و تنقشع". و هذا هو ما يثير الخوف و يجسد أعراض "الجهل المزدوج" أو الجديد، الذي وصفه سقراط بأنه "سبب كل ما يحدث من شر."[5]

إنه إذا كان المئات من الشباب و الأطفال يموتون كل عام نتيجة الحرب، فالعالم مدعو إلى تحمل مسؤولية هذه "التراجيديا". و سواء تحملها أو لم يفعل، فإنها ستظل تلاحقه إلى أن تتحول إلى حقيقة متاحة، سهلة الفهم. إن الشيخوخة التي تعيشها أوربا (القارة العجوز) اليوم، ما هي، في اخر المطاف، إلا نتيجة لمسؤولية لم تأخذ على محمل الجد.

 

و آلاف الهكتارات التي دمرتها نيران القنابل ،هي أيضا مسؤولية ( لم يهتم لشأنها أحد من خبراء التنمية المستدامة الذين ربما ماتوا فتركونا وجها لوجه أمام الكوارث) تتحول رويدا رويدا و بطريقة تثير الهلع إلى نهاية دراماتيكية للعالم. و ظاهرة الاحتباس الحراري؟ أليست المسخ النهائي لمسؤولية لم يتحملها المسؤولون عن الحرب في الوقت المناسب و بالجدية المناسبة؟

إن الأرض، هذا النظام الذي وضع رهن إشارتنا، لا تستحق أن تذهب ضحية للحرب. حرب الإنسان ضد الإنسان. يا له من تناقض صارخ!

 



[1] جاك بوفريس، الفول و القول الذي لا يقول شيئا، اللامنطق و الاستحالة و اللامعنى، ترجمة محمد الشاوش، الهيئة البحرينية للثقافة و الاثار.2019.

[2]  سفيتلانا أليكسييفيتش، ليس للحرب وجه أنثوي، ترجمه عن الروسية، نزار عيون السود، دار ممدوح عنوان للنشر و التوزيع، ط.1. 2016.

[3] Jaques Bouveresse, Le philosophe et le réel, Entretiens avec Jean Jaques Rosat, Hachette Littératures, 1998.

[4] Thomas Dekoninck, La nouvelle ignorance et le problème de la culture, Presses Universitaires de France, Paris, 2000.

[5] Thomas Dekoninck, la nouvelle ignorance et le problème de la culture.

Share To: