طلعت قديح يلهو مع الأبالسة | بقلم الأديب الناقد: طلعت قديح
تمثل رواية "لهو الأبالسة" للروائية سهير المصادفة مزيجا من الأطروحات أو التنويعات المقطعية لتعدد مدار كتابة الرواية وأنواعها، فهي رواية تدخل فيها السيرة الذاتية في لمحات ترتكز عليها الرواية في حقبة ما، فانحناءة نحو المشهد البوليسي الذي يكون ملقما لا متأصلا، بمعنى أن الإحساس بالتوجه إلى الدور البوليسي في الرواية يحدث ضمن إحداث فجوة بسيطة، لكنها رغم ذلك تفتح أفقا لمثل هكذا مسار.
وفي إضافة أخرى؛ تخطو سهير المصادفة في روايتها الأولى إلى الكونفدرالية الروائية في مزيج جيد من خلال التقاطات تاريخية وسياسية ووطنية تجعل من هذا التمازج اتساعا في المنحى الذي تذهب إليه أحداث الرواية.
إن المرتكز الاساسي للهو الأبالسة؛ هو توليفة من الرؤية السردية، والتي كونتها من "الرؤية من الخلف"، كإسقاط علوي على واقع أفقي متمدد، لكنه تمدد محصور ضمن الرؤية السردية اللازمة.
قبل البدء خطّت المصادفة شيئا أرادت تعزيز ذكره "إهداء ومرجعية".
إهداء ؛ لضحكة "لؤي" الابن.
ومرجعية التجميعات الأخرى الثلاث؛
كل الأغاني والحكايات الشعبية المصرية. "الموطن"
كل الأغاني والحكايات الشعبية الروسية. "الغربة"
كل شعرنا العربي من الجاهلية وحتى الآن. "التراث"
هذه التجميعات تعبر عن خليط مرجعية الذاكرة ومساندتها ضمن خط خيال الرواية التي أرادت فيها المصادفة إرسال رسائل، منها ما هو واضح في كينونة الخط الروائي، ومنها ما هو تسريب متقن، يعطي للقارئ منحة للتفكر وربط الخيوط بالحياة والأحداث والمدارك.
*سمكة الجيتار وانحناءات أحداث الرواية.
في لهو الأبالسة؛ قسمت الكاتبة روايتها لـ عشرة أجزاء، تحمل في كل جزء استهلالا بذكرين مقترنين هما "سمكة الجيتار" "حوض الجاموس"، ولا ريب أن ذكر "سمكة الجيتار" له دلالاته، وبالبحث عن تكوين هذه السمكة؛ التي تعتبر من أجمل الاسماك في منطقة البحر الأحمر، وهو حيوان مائي متطور بشكل بدائي (سهل ممتنع)، لديه نظام بصري متطور عن باقي الحيوانات المائية الأخرى، وهذا يحيلنا إلى التمازج في الإطار النظري بين سمكة الجيتار في تكوينها وبطلة الرواية. وقد نستغرب حين نعلم إن اصطياد هذه السمكة لا يكون إلا بطعم خاص من سرطانات رملية وأسماك ذات الصدفية "سمك بلح البحر".
قد يتساءل القارئ؛ لم كل هذا التعريف للسمكة؟
إن خطورة هذا النوع من الأسماك؛ تكمن في أنها أثناء أكلها وسحقها الفريسة، فإنها تتعرض إلى تدمير الخياشيم الرقيقة في هيكلها، إن أخطأت في الإيقاع بالفريسة، وبذلك يكون عملها احترافيا.
هذا التمهيد والذي لا بد منه؛ تلخص المصادفة وصف البطلة بذكر سمكة الجيتار وتطعيمها بأوصافها شخصية البطلة "مها السويفي"، وهذا ما نراه في تلقيم عشرة أجزاء بذكر "سمكة الجيتار" سواء بالوصف العلمي أو الوصف المقترن بالأحداث في الأجزاء، ناهيك عن إبراز "حوض الجاموس" في كل جزء؛ في توليفة بين الإسقاط العلوي والذي تمثله "سمكة الجيتار" مرمزة للبطلة، وبين "حوض الجاموس" المكان العشوائي"!
وهنا يبرز إلماح لا دليل عليه؛ إلا من ناحية استقطاب هذا المنتج الأدبي كسيرة ذاتية كما أسلفنا؛ وباستلهام أن عشرة أجزاء كانت الأقرب لاسم "سهير مصادفة" بعد حذف "أل التعريف" والذي يوضع غالبا للتبجيل، فإذا بالكاتبة-سرّا وسترا- تكتبه ضمن هذا اللهو!
*عتبة لهو الأبالسة.
واللّهو في اللغة: ما يشغل الانسان عما يعنيه ويهمه، وهذا يكشف لنا أن الأحداث في الرواية مزيج من المسارات غير المؤثرة في مفصليات الحياة، كالموت مثلا على الرغم من حالة انتحار؛ فهي أحداث تمثل تنويعات حياتية بتشعب الواقع فيها من مدارك ومسافات بين أحداثها في عمق الشعور الإنساني في مجملها.
وحين تقترن بمفردة "الأبالسة"، فهو تلقيم ليس للشخوص فقط؛ بل كإفرازات المكملات الذاتية للأحداث، بمعنى أن لا وجود لانكسار قوي للحدث في مسار الواقع إلا ضمن الانكسار الشعوري "الذاكرة".
لكن برغم ذلك؛ فإن وصف "لهو الأبالسة" يعبر عن حبكة مختلطة ما بين وصف "لهو" المفرد، ووصف "الأبالسة" الجمع، وهذا تصعيد للممارسة، ونزوح إلى عدم التحكم تارة والإكثار تارة أخرى.
ولعل أول وصف لسمكة الجيتار في جزئها الأول، يمنحنا نبذة عن طريقة السرد التي تقترب من الشاعرية نوعا ما في مواضعها الدقيقة، للوصف عند المصادفة: ( تنزلق عارية إلا من جلدها، على ذراعيه المتوحشتين تغفو قليلا، عيناها مفتوحتان على اتساعهما لتبتلع المشهد بأكمله، تنساب من بين أحضانه تاركة إياه يصفعها على كل جزء من أجزاء جسدها، يجرجرها في دوامة بعد دوامة، فتستريح قليلا على كتفيه ثم تواصل الانفلات، يغطي عريها بزبده، ينهشها بزئيره العالي فتستكين قليلا ثم تنتفض وتشق بذيلها صدره وتمضي قدما نحو الشاطئ، يهيأ لمن يراها أنها سوف تملأ الفضاء بلحن لم يُسمع من قبل فيشرع آذانه وينتظر وينتظر).
"مها السويفي" وظلالها، وأقول "ظلالها"، لتصدر إحساس بأن معظم الشخصيات تتمحور حول هالة "مها"، تلك الهالة التي أضفت عليها المصادفة شيئا من الجذب والتفاعلية من الغير.
قد يتبادر للذهن أن تقنية الراوي العليم وأخرى "السارد العليم" في تمثلهما الجزء الأكبر في الرواية، لكنها وفي نفس الوقت توقد لنا عن وجود رواه مستترين للأحداث؛ ففي بعض المقاطع نرى الراوي المهيمن، والراوي المشترك الذي يوائم بين الراوي العليم والسرد المباشر، وهذا يذهب بنا إلى بنية الرواية البوليفونية، ولعل هذا ما أتاح للرواية أن تأخذ المدى المطلوبة لتبيان الثيمة الإنسانية التي رويدا رويدا كانت تنزاح لموت المؤلف، حتى تتلاشى فكرة السيرة الذاتية في لحظة فارقة، لا يتقن التماحها إلا القارئ الحالم النحلة.
*الشخصيات بين الرمز والتبعية.
"مها السويفي" شخصية في عمقها الإنساني وتأثيرها؛ متحكمة في مسار التهيئة الدرامية في الأحداث، وإن لم يكن في بعضها تأثير مباشر، إلا أنها تشدّ القارئ لمعرفة تقلباتها ورأيها فيما يحدث، بالقدر الذي أسهمت فيه الكاتبة في حصر الحديث وتأثيره القوي، حتى أننا نلاحظ تبعية الزوج "أحمد الدالي" في محور الرواية، رغم أهميته في عالم "مها السويفي" ومدى ما تمر به من نفسية وأثرها العميق، حتى في تسلطه هو متواضع في تبريره الذاتي لما يفعل "مزواج" حيث يقول: (سأجرب النساء لا لكي أجدك في إحداهن، بل لأبرهن لك كل مرة أنك واحدتي، فلنتفق كما شئت إذن يا مها أن يقتحم أحدنا غياب الآخر بمحض الصدفة)
وعلى الرغم من البعد المكاني إلا أن ذلك لا يعني أن تعيش "مها" في عالم آخر، بعيدا عن "حوض الجاموس" والذي في حقيقته عشوائية تقترب من مسمى "زريبة" لكن التأدب يفرض نفسه في الوصف، لأن هناك من يقطنها من البشر، أي بشر!
أنا أعتقد أن الإسقاطات متعددة الأغراض ماثلة وبقوة في رواية المصادفة، وقد تكون شخصية "بطة" إحدى تجليات الإسقاط الذهني الذي سيشتم القارئ منها رائحة اتهام ما لجهة ما، في ظل الممارسة الجنسية مع حمار حتى النفوق!
وهذا ما يمكن وصفه "محاكاة الذات في التأثير الفعلي" وهذا ما نلمحه في شخصية "نجوى" أخت "مها" فرغم وجود شخصية مستقلة لها، إلا أنها تعتبر في مجمل الأحداث ظلا لمها.
وبمثيله يكون تأثير "مها" على "أحمد منصور" المحب لها، حيث جاء في وصفه شيء من الغرابة أو لنقل امتيازه عبر حبكة القول في : (ولما كان يعتقد أن الإيدز يدخل من الخلف فقط فقد واصل غلق فتحة إسته باللزق الذي تبقى لديه من عهد الدراسة، على هيئة صليب، حتى نفد اللزق فنسي هو الموضوع برمته) إن هذا القول يبين لنا في طياته كسرا لتابوه من الوصف الذي يراه البعض خادشا على الرغم من مهنية التوصيف ضمن الوصف للشخصية.
ولا ريب أن هناك من الشخصيات المعبرة عن روح العيش في العشوائيات المهملة، في ظل نظام الدولة، فكانت إحداها "انشراح السبتاتي" التي تجعل لكل مشكلة حلا.
*استشراف لبذرة ثورة.
الكتابة إن لم تكن فعل مقاومة لمترديات الواقع، وتجليا للإسهام في التفكر للمستقبل؛ ستكون من باب التسلية البيضاء ليس إلا، لن تكون سوى مجرد ورق لا يسمن ولا يغني من جوع.
لقد وخزت المصادفة في إطار تصويري للأحداث قولا ووصفا؛ ما يمكن أن يسمى "التهيئة المجازية للمستقبل المحتم وقوعه" وكان هذا واضحا في إشارة بسيطة، ولكنها عميقة في قيمة الملاحظة التي قد تبدو عادية لكنها قاسية المعنى، حين ضحك "أحمد منصور" لطلب "نجوى" قلما، فقذفه من شرفته، قائلا:
-إن أقرب مكتبة تحتاج لسيارة "أحمد العتر"، فلا أحد في هذا الحي يحرص على اقتناء الأقلام.
عن الوخز اللئيم الذي مارسته "المصادفة" في تعريتها للنظام السياسي؛ كان ضمن انتقادات لاذعة مقتطعة ضمن التعبير عن حرية قول بدائي، ومثله قول "أحمد منصور" لمها:
-إنه عقبال عندك صار أكبر من تاجر مخدرات في وسط البلد، لا يتعامل، إلا مع كبار السياسيين والفنانين وأبناء الذوات.
وقول آخر لطالب الطب:
(نخشى أن تهجم أسعار الدولار على حصص تشريح الإنسان وتستقر في إحدى شرايينها التاجية.)
وتبلغ ذروة بذرة التنبؤ بالثورة على الواقع العبثي في الجزء الثامن، حيث كان المحرك الأساسي هو انقطاع التيار الكهربائي عن "حوض الجاموس" كرمز لكل ماهو عبثي، وهنا أسجل نقطة مهمة؛ إن رواية "لهو الأبالسة" بإطارها وشكلها ومنطقها؛ كانت البذرة الحقيقية لنفس فكرة فيلم "هي فوضى" 2007، وقد سبقت الرواية التشكيل البنائي والنموذج للبذرة الثورية بخمس أعوام "2003"!
وكان لا بد من القول الصريح: (حتى نحصل على شرارة نخصبها بطريقتنا)!
وإنني أزعم أن الكاتبة المصادفة استشرفت في جزء الرواية الثامن؛ إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، بما تمثله من وصف مقارب.
بل وتعدى ذلك إلى استشراف مشكلة مياه النيل وسد النهضة، في قولها الموارب: "لم يعد للنيل تماسيح، خصوصا، بعد بنائكم منذ زمن طويل للسد العالي."
*بانوراما التماثل والتنافر بين موسكو وحوض الجاموس.
قد يتبادر للذهن؛ أين موسكو من حوض الجاموس، وكيف تلك المماثلة أو الاقتراب من ذلك؟
إن الأمر في رواية المصادفة لا يلتفت إلى العمران من عدمه، أو المقاربة بين الشيء ونقيضه، وإنما كانت النتيجة (الخراب) الذي كان سببه الانهيار، سواء بالمعنى الواقعي الملموس أو المحسوس ذهنيا وفي قعر النفس والتأثير الداخلي للكينونة الإنسانية.
إنها صرخة في وجه الظلم سواء البائن تحضره الحتمي سقوطه، أو المرئي تخلفه المتردي دائما قبحه.
*الرمز بين التنظير الفصيح والكشف العامي.
لكل عمل أدبي وخصاصة الرواية؛ ولمن يكتبه منظور خاص، وبناء عليه يبادر في الشكل البنائي الحكائي اختيار الملقم اللغوي، فإما أن يكون فصيحا، أو ينزاح إلى تلقيم الحوارات باللهجة الدارجة "المحكية"، وعليه فإن التأرجح في الحوارات بدا ظاهرا في تركيبة النص.
ويمكن أن نلتمس العذر في تقلب الحوار بين العامي والفصيح إلى جو البيئة الذي يحتم أن تكون اللغة غير بيضاء أو مهادنة، بل كانت من قاع البيئة العشوائية، لكن المصادفة في نفس الوقت لم تترك الحبل على غاربه، بل جعلت هناك تلقيما لغويا في حوارات كثر، ليس لأنها أحست بعمق وامتداد فيه غلو، مما يخل بالبناء الروائي، وبالتالي كان لها التخفيف من سطوة الحوار العامي، باختيار الحوار الفصيح مراعية في ذلك الشخصية ومتن النص الذي يحتمل الفصيح في القول.
*بين السيرة الذاتية وموت المؤلف تلهو الأبالسة.
وضع يده على جبينها، كان وجهه يتحول إلى وجه يتحول إلى وجه "دوستويفسكي" بعينيه الضيقتين النافذتين ولحيته المهذبة، ووجنتيه الشاحبتين، ظل يرتل بصوت ليس بالتأكيد صوته:
-(قم لخبزك هذا الذي لا يمكن أن يجف، وجِعتك التي لا يمكن أن تصير فاسدة إذ بها تصبح روحًا) (كتاب الموتى).
على مدى بصرها في الأفق، كان مترو الأنفاق يخلص نفسه من ركام البيوت التي تجثم عليه، فينفضها دفعة واحدة، وينطلق كالأفعى صوب العاصمة، وجهها شاحب يطلق نوره المعتاد، شعرها الناعم الغزير، الذي كانت تجيد صعوبة في أن يذهب للخلف ينام الآن تحت رأسها ليفسح لمنبته هذا المثلث الصغير على جبينها المضيء أن تتلألأ....الآن عيناها مفتوحتان على سقوط صواريخ نارية، سيان لديها الآن هل هي صواريخ حربية أم صواريخ مهرجانات؟ وعلى أرنبة أنفها الدقيق الانسيابي المتكبر في آن واحد كان آخر ورم قد ترك حفرة عميقة حتى عظام الأنف، مما جعلها لا تنس قبل أن تنساب في شفتيها آخر كلماته، أن ترفع يدها بأصابعها الدقيقة الطويلة لتغلق بها هذه الحفرة بدلالٍ أخاذ بالغ.)
إن المتتبع لنسق الرواية من جهة، وسيرة الكاتبة من جهة، يطرح نوعا من المواءمة بين التأصيل الروائي والتأليف الروائي، وبينها مسافة شاسعة، تبرز في ذات الفكرة نظرية موت المؤلف من عدمها.
أعتقد أن الغالب في الرواية هو تعدد الموت مع إيقاظ مشاهد معاشة أو مرئية أو مسموعة، ولذلك فإن موت المؤلف ليس بنسبة الاكتمال في منهج البنية لرواية "لهو الأبالسة".
وأكثر ما يجعل هذا الاستكشاف هي مقاطع تراثية تقال في مناسبة عدة، وهي إحدى المرجعيات الموضحة في صفحة "إهداء ومرجعية"، ومنها:
(يا نيل
ياطولك
ياطولك يا ليل
مركب صُغير ماشي
وأنا مش فيه
أنا ألملم جتتك
يارجلي
وهارجعلك من وين؟).
(ياللي شبابك زين وانت زين
لولا شبابك ما بكت لي عين)
(أنا إن شكيت للحديد ربع ما بي).
*تعدد حبكات الأبالسة في لهوها.
قد يعتقد الكثيرون أن الحبكة هي موقف أو حدث ترتكز عليه الرواية، إلا أن "لهو الأبالسة" كانت الحبكة في مكونها الأساسي ثلاثية الأضلاع، ومنها زار زورق الحكاية في مرسى لا تغادره، وهي حبكة ثلاثية من (الجنس-السياسة-الدين) وهي التابوهات المعروفة للجميع، ومنها عرضت المصادفة رؤيتها للواقع والمبادئ والحرية، فكان ذلك اللهو مقدّرا له الضغط على الزناد تارة، والتلويح تارة، وعض الأصابع تارة أخرى.
طلعت قديح
Post A Comment: