أين تأثير العِلم على عقولنا؟ |بقلم الأديبة السورية / د.فادية كنهوش 


أين تأثير العِلم على عقولنا؟ |بقلم الأديبة السورية / د.فادية كنهوش


مع أن كل الظروف المحيطة بنا_وخصوصا في البلدان الجريحة والمنكوبة في شرقنا الأوسط وقد يكون في بلدان كثيرة أجهل تفاصيل ظروفها_ توحي لا بل تدفع الى الرحيل المكاني حتى  إن الرحيل الزماني( او العودة للماضي) من هذا العصر بالذات باتت أمنية لكثيرين، مع ذلك يبقى هناك وجه إيجابي واسع الطيف لهذا العصر ( نسبيا) ألا وهو إمكانية التواصل ونشر المعلومة عبر وسائل التواصل المتاحة لكل أبناء الكوكب مع عدا استثناءات قليلة. قلت " إيجابية  نسبية" لأن هذه الإيجابية تحمل في طياتها "سلبية خطيرة" لها مردودها المباشر على المجتمعات. هي خطيرة لأن العقل الشعبي والجماهيري لم يستفد من "العلم" الذي تلقاه او الذي غُيِّبَ عنه فبات يتابع كل منشورات هذه الوسائل دون أن يقوم عقله ب"فلترة" المعلومة الواردة. لا بل أن بعض النماذج من شرائح متعلمة الى مستويات عليا تراها مُنجَرّة وراء سلوكيات شعبية موروثة وتُنشَر بغزارة على النت، وتُطبقها بغفلة عن العقلانية التي نحتاجها للنهوض بالأجيال الجديدة وبالتالي بالأوطان...لذلك نبقى نراوح في زمان غير مُنتَمٍ الى "العصر الحديث" بغناه العلمي والحضاري. 

فقد وفّرت تقنيات التواصل لكل ذي كلمة ورأي إمكانية نشر هذه الكلمة بغض النظر عن كونها تهدف للإصلاح أو لمنفعة ذاتية مادية، أو ربما خبيثة لنشر الجهل وإغراق شعوبنا في متاهات مظلمة بعيدا عن نور العلم وحتى نور الأخلاق. 

لذلك يكثر الآن هؤلاء " الواعظين، والشارحين، والمبررين والمطبلين والمزمرين" ، كل يستجدي الحضور والمشاهدات والشهرة...بعضهم ذو سلوك مسالم ولطيف وبعضهم ذو سلوك عدائي لا يخلو من الشتائم للرأي المغاير وفي أحسن حال لا يخلو من السخرية والتهكم. والمشكلة الخطيرة هي، كما أوردت أعلاه، أن حتى الجمهور "المتعلم" ولا أقول" المثقف"  بشريحة كبيرة منه، هو ضحية مثل غيره..وخصوصا إذا كان الموضوع المتابع مذوَّقا" بالبهارات " الدينية أو العرقية السياسية.

سؤالي هو: ما تأثير التربية " العلمية" التي يتلقاها الفرد  على سلوكه وقد ينال شهادات عليا بالبحث في مجال اختصاصه؟؟ للأسف نرى الكثير يستفيدون من إمكانياتهم في تطبيق طرائق البحث ليخدموا فكرة ثابتة في أدمغتهم، فكرة دون ركائز علمية وإنما موروثة شعبيا ودينيا.. حتى أن الكثير منهم قد يتّبٍع رجل دين أو مدّعي دين أو دجّال وهم أعلى رتبة علمية منه...ويسخِّرون له الأموال والأرواح...ويجرّون عائلاتهم وأطفالهم الى التقوقع في ظلماتهم ومنعهم عن الحياة و البحث عن مستقبلهم في آفاق مغايرة وجديدة. 

صعقني، حرفيا، لا بل سبب لي الاكتئاب، فيديو شاهدته عن رجل روسي تجاوز الخمسين من عمره، كان جنديا ثم شرطي مرور قبل ان يدّعي في بداية الثلاثين من عمره أنه المسيح ابن الله جاء لهداية الناس ولحمايتهم من المجازر الحاصلة في العالم..وانعزل هذا الرجل الذي يُشبه وجهه وجه السيد المسيح كما يصوره التقليد الغربي بشعر اشقر طويل حتى الكتفين وعينين زرقاوين ومسحة لطيفة على الوجه عموما...انعزل في آخر أصقاع بيلوروسيا..فتبعه 4 آلاف شخص ليعيشوا بجواره وتحت سلطة تعاليمه وقد أحاط نفسه بكتيبة أمنية منهم. يسيرون كل سنة مدة ثلاثة ايام في الثلوج الكثيفة للقائه والاستماع لحديثه ويدفعون ثلث دخلهم له...وقد ترك المهندسون والاطباء وشرائح مهن أخرى متنوعة الحياة في مدنهم للعيش تحت سلطته...وله أتباع في انحاء العالم يصلون حتى 8 آلاف .أوردت هذا المثال البعيد عن منطقتنا كي لا أشير الى امثلة حيّة بيننا. يبقى سؤالي أين تأثير العلم على عقولنا؟ وكيف لعاقِلٍ ان يخدعه أفّاق وجاهل؟ وكم هم كثر على وسائل التواصل وكما قلت، بأهدافهم المختلفة السامة أو التافهة في حد أدنى. والخطورة تكمن أيضا في " استقبال" عادات  سيئة وسخيفة إن لم نقل شيطانية الهوى..بالتقليد الأعمى لما لا يناسب أخلاقنا اولا ومن ثم ظروف بلداننا وحياتنا الخاصة . 

أتساءل اذا ما كان الأوان قد فات لتصحيح مفهوم التربية العلمية في بلداننا...هذه التربية التي يجب أن تكون بعيدة كل البعد وخالية من أي تأثير ديني بالمطلق أو عرقي أو سياسي. ولكن التداخل الديني هو الأخطر . يجب ان يكون المتعلم قادرا على تفنيد الحقائق وإخضاعها للمنطق السليم. كما يجب ان يكون الشاب، والفتاة طبعا، قادرين على الثقة بالنفس والتكيّف مع الحياة  الواقعية واختيار ما يعزز وجوده  كمخلوق فريد وعاقل قادر على التمييز بين الخير والشر  ومقتنعا بالتالي بأن ليس كل ما يشاع ويصبح "ترند"  على وسائل التواصل يليق به ويرفع من قيمته الوجودية. علينا ان نعيد تشجيع اطفالنا على القراءة، قراءة الكتب المختارة لهم بإشراف المربّين لحين يصبحون قادرين على اختيار كتبهم وعناوينهم. كما وجب تربية الشباب على الانفتاح على كل الثقافات والإيضاح لهم  دوافع ونشأة العادات والتقاليد في كل مجتمع ليغدوا قادرين على التمييز والبحث عن الحقائق الرصينة والبناءة. وما أحوجنا لإعادة بناء مجتمعاتنا بناء علميا سليما.. وهذا دَين علينا بحق أولادنا وأوطاننا.

 د. فادية كنهوش من سوريا.

 7/ 11/ 2022




Share To: