المُنتَحر وسرّ الفِداء.. | بقلم الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم


المُنتَحر وسرّ الفِداء.. | بقلم الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم



كلٌّ منّا يسعىٰ نحو خلاصه الفردي قليلون من يحملون هوس الخلاص الجماعي يتجاوزون الوصايا الشخصيّة وتوزيع بضع دراهم لذوي القربى.

نادرون من ينشغلون بالأقارب الأوسع دائرةً يشعرون أنَّ أرواحهم تنتمي لكلّ الطين والدَّم المُنتشر على سطح هذا الكوكب، ولابُدّ أن يتركوا رسالة خالدة قبل الرحيل الأخير.

"نادر محمد جميل" ذاك الشابّ المصري طالب كليّة الهندسة الذي انتحر كان من هؤلاء النادرون، حمل آلامه واتّخذ من برج القاهرة صليب خلاص وهبَ جسده الأخضر فداءً للمنتحرين بصمت الذين ماتوا وهم على قيد الحياة يمارسون نشاطهم اليومي بنصف شعور بعقلٍ باهت ضعيف التركيز مُشتّت يترنّحون بين لقمة العيش المُرّة المجبولة بطعم الذلّ والقهر عزائهم الوحيد أنَّها علىٰ سبيل طريق الحلال..

قد يتفاجىء البعض أنِّي قرأتُكَ بالمقلوب، رأيتك رسالة حياة لا موت؛ فقد وضعتُ نظّارةَ شيخي المهووسة بالتحريم لا التفهيم جانبًا الذي لم يستطع إقناعي بإجابتهِ إن كان الإنتحار فعل ذميم ومستهجن لمَ تزعمون في صحيح البخاري أنّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قد أقدم على فعل ذلك إن كنتم تستقبحوا ذاك الفعل!

اطمئنّ عزيزي القارئ لستُ مع الانتحار عقلًا وشرعًا أنا أرفضهُ بالمطلق، وامتلك من الجرأة ما لا يمتلكهُ بعض المشايخ الذين يأبون أن يُسقطوا حديثًا ورد في صحيح البخاري ويشطبوه؛ وإن أسقط الرسول المصطفى أكمل الخلق عليه وعلى آله الصلاة والسلام في تهمة محاولة الانتحار والعياذ بالله!

الانتحار حرام برسم العقل الذي يوافق الشرع السليم لقد حسمتُ هذه المسألة في قسم الفلسفة، وتحديداً في باب الأخلاق النظريّة عندما أقنعني الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"بحجته وميزانه في معرفة قياس إذا كان هذا الفعل الأخلاقي صحيح أم خاطئ نقوم بإخضاعه للتعميم.

فمثلًا إذا أردنا أن نعرف الانتحار صحيح أم خاطئ، نسأل سؤال هل يصحّ لأيّ إنسان يتعرّض لمصائب أو آلام في أي زمان ومكان ينتحر؟

إن كان الجواب نعم سيؤدّي إلى أنّ كلّ الناس ستفنى! وسنستنتج عقلًا أنَّ هذا الفعل خاطىء، عكس صفة الصبر على الشدائد لو أخضعناها لقاعدة التعميم.

مشكلة الكثير من العقليّات الدينيَّة أنُّها تُحرّم الفعل وتجرّم صاحبه لكنّها لا توضّح المباني العقليّة لأصل التحريم تكتفي بتصدير النصّ المقدّس وتتبنّىٰ منطق أنّ الحُسن والقبح شرعيّان قلّة من يعتنق رأي المعتزلة بأنَّ الحُسن والقبح عقليّان أي ندركهما عن طريق العقل.

دوماً تسرقني الفلسفة من شعوري لقد قادتني نحو سطور خارج الحبر الحيّ الذي سقط في كفّي من رسالة نادر الأخيرة.

لا يهمّني أن أعقد محكمة قضاء لأحدّد وجهة نادر ما بعد الموت كلُّ ما أعرفهُ أنَّه رحل إلى الرحمن الرحيم طبيب النفوس القادر على قياس مستوىٰ مادة "الدوبامين" في أجسامنا واحتواء أفعالنا المتهوّرة واليائسة حين تنقص تلك المادة ونكون عرضة لوحش الإكتئاب المفترس.

نادر انتحر عنّا يا سادة!! فدىٰ يأسنا وإحباطاتنا كان يستطيع أن يختار طريقة أهدأ للرحيل لكنَّ اكتئابه أبىٰ إلاّ أن يخلقَ ثورة مخنوقة تُحاكي واقعنا المُعاش، لم يولد في "سويسرا" ليختار انتحارًا مُريحًا خالي من الألم تحت إشراف طاقم طبي.

لقد صرخ في وجهِ كلِّ البذاءات التي تُحيط بنا واختلال موازين القيم في المجتمع حتىٰ ما كُنّا نفتخر به أننا شعب عاطفيّ واجتماعيّ تكاد تلك الصفة تتبخّر أمام شبح الوحدة وعجلة العمل التي تقطّع الأواصر العائليّة لا نملك وقت للأصدقاء أو الجلوس في ظلِّ شجرة تتأمّل صفحة الكون، لقد دقَّ "نادر" ناقوسَ الخطر فعل مؤتمر حقيقيّ بجسده الحيّ لنهتم بالشباب أكثر ببعدهم الروحي لا الدراسي، أن نُغيّر من قاموسهم فكرة كليّات القمّة، والبيت النموذجي، والزوجة المثاليّة، لا نتركهم عرضة لمفاهيم التمدّن السطحي، وفي ذات الوقت لا نجعل بدائيّات المعيشة أحلام لديهم ندفنهم أحياء في هذا الوطن الغائب عن التحضّر.

ارتدىٰ عباءة نبيٍّ لا يحمل في جعبته وحيًا ولا يُريد أتباعاً يتّخذون ما فعل سُنّة، اعتلىٰ قمّة البرج مكاناً عصيّاً علىٰ النسيان اتّخذها رَبوةً تَتوسّط العاصمة يُلقي فوقها خِطابهُ الصاخب الأخير ليوقظ الغافلين عن الحياة بالموت، رحل ليقول لكلّ المحبطين لا تفعلوا مثلي، رُبّما فقط هو أراد أن يدنو من السماء فسقط سهوًا علىٰ الأرض.

أنا لا أتقوّل علىٰ نادر ماذا كان يُريد أن يفعل، ماهي إلاّ تأويلات الكتابة التي تساعدني على فهم وترتيب المشهد وقراءة ما بعد النقطة.

لذا قرأت في واقعة الانتحار هذه، وبشكل شخصي رسالة فداء لي، وكأنَّ روح "نادر" وشوشتني أن احرصي على الإيمان بالله والأمل والحبّ وتراب الوطن.

لا تُلقي سلامًا باردًا علىٰ العابرين، افصحي عن مشاعر الحُبِّ بصخب وجنون، وعن الغضب بشكلٍ منظّم ومهذّب، لا تخنقي الإنسان بداخلك، واهتمّي بروحك كزهرة وإيّاكِ أن يجتاحك الذبول، ارقصي على وقعِ موسيقىٰ الحروف، وغنّي للحريّة، فلا نشوة كجناحِ عصفور تذوّقَ نسيم الفجرِ بعد طولِ الأسر. 

هذا الصباح قبل أن استضيف ذكرى نادر وأكتب عنه، مارستُ كامل طقوسَ كتاباتي تزيّنتْ وتعطّرت، ولم أمسك قلمي إلاّ بعد أن توضّأت بالطيب، وارتشفتُ النور من مسامِ وجه من أحبّ واحتسيتُ كافيين العشق، وأخذتُ قدرًا كافيًا من العِناقِ المُلهم الذي يقيني شرّ نكساتِ الرُّوح.

جدّدتُ امتناني للخالق على جزيل نعمهِ التي لا تُعدّ ولا تحصىٰ وأخذتُ عهدًا أنّي حين أزور برج القاهرة في المرّةِ القادمة سأتلو فاتحة الكتاب لأرواح المتعبين فوق الأرض، وانثر بذور الحُبّ كي تعود الحياة لوجه هذه المدينة.

يا رفاق الروح اقرءوا المشهد جيّدًا تشبّثوا بالأمل العنيد وعانقوا الحُبّ اللّحظة التي تمرّ نادرة لنقدّر الحياة ونجاهد لأجل سلامنا النفسيّ.


الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم.

القاهرة ٥/ ١٢/ ٢٠١٩.


المُنتَحر وسرّ الفِداء.. | بقلم الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم



Share To: