نظرة في ديوان "وردة أخيرة للجرح" بقلم دكتور : ربيع عبد العزيز _ أستاذ النقد الأدبي-كلية دار العلوم- جامعة الفيوم


نظرة في ديوان "وردة أخيرة للجرح" بقلم دكتور : ربيع عبد العزيز _ أستاذ النقد الأدبي-كلية دار العلوم- جامعة الفيوم


أصدر الشاعر محمد فؤاد محمد عام 2000م ديوانه الأول:  (دماء على خيوط الفجر)،  وأصدر عام 2002م ديوانه الثاني: (الركض إلى حدائق الأحبة)، ثم أصدر ديوانه الثالث: (وردة أخيرة للجرح )عام 2017م والذي يقع في نحو أربع وتسعين صفحة من القطع الصغير، ويضم بين دفتيه سبعَ عشرةَ قصيدة جاءت كلها على الشكل التفعيلي.

والعنوان : " وردة أخيرة للجرح" عنوانان في وقت واحد؛ فهو عنوان القصيدة العاشرة في الديوان، وهو عنوان الديوان كله. وهكذا دأب الشعراء في عصرنا على أن يتخيروا إحدى القصائد لتكون عنواناً للديوان كله، وفي هذا الاختيار عادة ما يمارس الشاعر بعض وظائف الناقد الأدبي؛ إذ يضع في حسبانه أن العنوان هو العتبة الأولى التي تواجه المتلقي، وهو المحرض الرئيس على اقتناء الديوان وقراءة نصوصه؛ لذلك يدقق الشاعر كثيراً في تخير العنوان المركزي الذي يحمله الديوان، وفي صياغة لغته حتى إنَّ لحظة اختيار العنوان المركزي بصفة خاصة تعدُّ بالغة الحسم في سيرورة الديوان وتداوله والإقبال على قراءة قصائده؛ فكل العناوين من بنات فكر الشاعر وخياله، وعليه أن ينظر فيها ويفاضل بينها؛ ليتخير أجدرها بأن يكون عنواناً مركزياً قادراً على أن يمثل تجربته ويشاغب- في الوقت نفسه- ذائقة المتلقي، وتلك مهمة ليست بالهينة أبداً.

وإذ ننظر إلى القصيدة/ العنوان: وردة أخيرة للجرح، نجدها من أقدر القصائد تمثيلاً لتجربة محمد فؤاد الشعرية؛ فمنها تمتدُّ خيوط دلالية رفيعة تصلها بأخواتها من قصائد الديوان، بل إنَّ ما تفرق من ألفاظ في معجم قصائد الديوان يتجمع العديد منه في قصيدة وردة أخيرة للجرح؛ ففي قصائد الديوان تتردد بقوة ألفاظ تتشح بالأسى وتعكس شعورا غلاباً بالحزن والغربة والحنين إلى مرابع الصبا وعالم البراءة، وهذه الألفاظ المتفرقة يتجمع الكثير منها في قصيدة: وردة أخيرة للجرح؛ وذلك مثل: الجرح" تكررت ست مرات" ، الدم " تكررت ست مرات أيضاً"، الغصون، الياسمين، السنونو، أشلاء، التشرد، الأسارى، المذابح، نار، خنجر ، الحصار، النشيج، دموع، مقصلة، العجاف، "تحزن/ حزناً/ حزن"، الورود.

وإذا كانت عناوين القصائد تدين بوجودها الصياغي للشاعر، فليس معنى هذا أنَّ مضمون النص خارج حسابات الشاعر وهو يتخير العناوين ويحدد صياغتها، بل إنَّ الشاعر المعاصر كثيراً ما يحرص على وجود وشائج دلالية تصل العناوين الفرعية بالنصوص؛ بحيث لا يستوي الإبقاء على هذا العنوان أو ذاك وإبداله بغيره.

وبقراءة لغة العناوين نجد نزعة لانحوية تهيمن عليها؛ فهناك ثلاثة عناوين مفردة هي: شاعر، ضياء، مرفأ، وهذه العناوين تحمل مجرد دلالة معجمية، وهي مزروعة فيما يشبه الفراغ، فلا شيء يسبقها أو يلحق بها. وهذا النموذج من العناوين يدفع المتلقي إلى أن يتساءل: عن أي شاعر أو ضياء أو مرفأ يشير محمد فؤاد، وما مدى وثاقة أو هشاشة الوشائج الدلالية التي تصل كل عنوان من الثلاثة بالنص الذي يعنونه؟ إنها عناوين أقل صياغة وأكثر استفزازاً للمتلقي الإيجابي.

ومن العناوين ما هو مركب وصفي؛ كالعنوانين: " عيون عربية " و "بردية قديمة ..حديثة" ؛ فالعنوان الأول مركب من الموصوف "عيون" وصفته "عربية". وهو محفز قوي على القراءة؛ فإن في الإرث التاريخي للعيون ما يجعل المتلقي متلهفا على قراءة النص. وإضافة إلى ما سبق هناك وشائج دلالية وثيقة بين العنوان والنَّص. أما العنوان الآخر فيتألف من موصوف واحد: "بردية" وصفتين :"قديمة/حديثة" بينهما من التقابل المعجمي ما يشاغب ذائقة المتلقي ويحرضه على القراءة؛ شغفاً بمعرفة أسرار هذه البردية القادرة على الاحتفاظ بالضدين: القدم والحداثة. ومع أنَّ أنفاس فرعون وهامان تتردد في ثنايا النَّص، إلا أن الخيوط الدلالية التي تصل العنوان بالنَّص يلفها غموض كثيف؛ ومرد ذلك إلى أنَّ القدرة الاستيعابية للعنوان تجعله وعاء صالحاً للعديد من التجارب التاريخية التي تتكرر فيها الأحداث مع اختلاف الأشخاص والبلدان.

وإلى جانب العناوين المفردة والمركبة تركيباً وصفياً هناك عناوين مركبة تركيباً إضافياً؛ كالعنوان: "زهرة للوطن". إن دال الزهرة يحيل إلى أنواع عديدة من الزهور؛ كالتوليب والجوري والأوركيدا، ولكلِّ نوع لونه المميز وعطره الخاص وإرثه التاريخي. أما المضاف إليه:" للوطن" فيحيل إلى المكان بما فيه من الأهل والأصدقاء والحبيبة والطبيعة. ومن تمازج ما يحمله المتضايفان من إحالات يكتسب العنوان قدرته التحريضية على التلقي، ويتمتع بوشائج ارتباط دلالية بالنص الذي يعنونه حتى إنَّ الدال " زهر" هو آخر ما يصافح من النص أذن المتلقي وعينيه.

وهناك عناوين إنشائية الصيغة؛ منها: أعيديني، يا مريمية. إنَّ الصيغة الإنشائية: " أعيديني" تحرِّض المتلقي على التساؤل عمَّن يأمرها الشاعر بأن تعيده. ولماذا آثر الأنثى بالأمر دون الذكر؟ وعم يتطلع للعودة إليه: أهو حضن الأم، أهو حضن الطبيعة، أهو الوطن، أهي العودة للذات؟ كل هذه تأويلات محتملة، وكلها تحفز المتلقي على القراءة. وأما الصيغة الإنشائية :"يا مريمية" فالمألوف أن يتلازم مع بنية النداء بنيات إنشائية سؤالاً كانت أو أمراً أو نهياً أو تمنياً، لكن لغة العنوان فيها من الإضمار ما يشاغب أفق الانتظار لدى المتلقي الذي يشغف بمعرفة ذلك الشيء الذي من المتوقع أن يسأل عنه الشاعر أو يأمر به أو ينهى عنه أو يتمناه من المنادى، وبهذا الترقب والشغف يمارس المتلقي فعل القراءة.

     وهناك-أيضا- عناوين تتمتع بقدر واضح من النحوية؛ كالعنوان: أعطني من رؤاك خيالاً؛ الذي يتألف من جملة فعلية متكاملة الأركان، لكن نحوية الصياغة لم تحل دون شعرية العنوان؛ فقد نقلت الصياغة الرؤى والخيال من إطار المعنويات إلى إطار المحسوسات التي يمكن تداولها، وآثر الشاعر تقديم شبه الجملة :"من رؤاك" وتأخير المفعول الثاني: "خيالا"؛ معرباً بصنيعه هذا عن سيطرته على لغته، وواضعا -في الوقت نفسه- شبه الجملة في بؤرة اهتمام المتلقي.

وفي الديوان منزع وجداني يعكس العقيدة الفنية التي يدين بها محمد فؤاد، وهي عقيدة أساسها المتين أنَّ الشعر فيض وجداني يجعل القصيدة تكتب نفسها ولا تمر على الأوراق؛ يقول الشاعر في قصيدته:أعيديني:([1])

       دعي الأشعار تسبح بين مكنوني

سئمت صلادة الجدران

في كل الميادين

ومعذرة

    فما مرَّت قصيدتنا

   على الأوراق، بل فاضت من الوجدان

   إذ جاءت تمنيني.

     وللرومانسية حضور واضح في قصائد الديوان؛ فالشاعر قوي الارتباط بالطبيعة، شديد الشغف بعناصرها من أشجار وظلال ونخيل ونجوم إلى حدِّ أنَّه لا يطيق فراقها، فإن اضطر إلى فراقها استبدت به لوعة الفراق فأناب عنه الناي؛ ليستنفد بصوته الشجي ما يحتدم في وجدانه من ثنائية الحضور والغياب، البقاء والرحيل؛ بعض ما سبق يتجلى في قوله:([2])

   وناي الغياب يردد:

   يا شجري قد ألفتُك من ألف ظلٍ

   تجوّل ظلُك حولي

   فهل بعد هذي الظلال أذوق الهجير؟!

   أنا ابن الطبيعة، وابن الشجيرات،

   وابن النخيل الذي ينتمي للفضاء،

   أنا ابن النجوم التي ترتمي فوق غصنك،

   يا شجري لا تودعني، لست أقوى.

     ويعد الحزن ظاهرة رومانسية قوية الحضور في قصائد الديوان، لكن الشاعر لا يتكلف الأحزان، بل لأحزانه بواعثها النفسية؛ فهو مفعم الحسِّ بالغربة، شديد السأم من صلادة الجدران، قوي الحنين إلى الطبيعة؛ يقول في قصيدة أعيديني:([3])

   أعيديني

   إلى حقلي

   فراشاتي تناديني

   سنابل حقلنا حَنَّتْ

   لأصوات الحساسين

   وأمواه الغدير سرت

   تباسم كل محزون

   أعيديني إلى النَّوار

   والصفصاف والتين.

     وفي قصيدة عام الحزن يتفاقم الحسُّ بالقتامة حتى إنَّ الحياة تفقد مقومات بقائها؛ يقول الشاعر: ([4])

       هذا عام الحزن

لم نبصر فيه وميض شعاع

لم تمطر فيه سحاب قط

إن تمطر

لا تروي إلا الأحزان

بوادي القلب.

    وبدورها انعكست قتامة الرؤية على عناصر التشكيل الجمالي؛ إذ نجد دوال النفي: " لم+ لم +لا " إلى جوار التركيب الشرطي:" إن تمطر/لا تروي" ، ثم هذا الاستثناء المفرغ:" لا تروي إلا الأحزان" المملوء بالأسى. هكذا تقدم الصياغة السماء وهي تخالف الناموس مُنْزلة بالأرض العقاب الأقسى، كما تقدم الأرض مسكونة بالظلام والقحط والحزن؛ بحيث بدا المشهد وكأن الحياة لم يعد فيها ثمة ما يغري بالبقاء.

     ويعترف محمد فؤاد بأثر الحزن في معجمه الشعري؛ يقول مخاطبا الشعر:([5])

حين تهبُّ الجراح عليَّ،

إذن لا تسل عندما أطرقتْ نظرتي للفراق،

وقد بلَّل الحزن معجم شعري

حين بدت طائرات الفراق تئز،

وتمنحني فرصة للغياب البعيد/البعيد.

ومن يتأمل معجم قصائد الديوان يصادق على قول الشاعر:"وقد بلل الحزن معجم شعري"؛ فالدال "حزن " يتمتع- سواء أكان اسماً أم فعلاً- بحضوره اللافت؛ فمن بين سبع عشرة قصيدة تألف منها الديوان، تردد دال الحزن وتصريفاته في إحدى عشرة قصيدة وهي: أغاني الضياء، أعيديني، القصيدة تشكو الغياب، عام الحزن، كلمات إلى الوطن المغترب، وردة أخيرة للجرح، عيون عربية، زهرة للوطن، يا مريمية، الركض إلى حدائق الأحبة، أعطني من رؤاك خيالاً. بل لقد تكرر دال الحزن وتصريفاته أربع مرات في قصائد مثل: القصيدة تشكو الغياب الطويل، عام الحزن، وردة أخيرة للجرح.

     وإلى جانب الحزن هناك معالم رومانسية أخرى، أهمها- في نظري- ذلك الحضور الكثيف لألفاظ وتراكيب المعجم الرومانسي التي تطالعنا في قصائد عديدة من الديوان؛ ففي قصيدة متفرد في حدائق المدى نجد ألفاظاً وتراكيب مثل: نخيل، الأطيار، الأحلام، الصباح، الندى، فراشة الأحلام، مدائن العشق، أغصان قلبي، حفيف الشوق للأحلام، وجهها الوردي، وفي قصيدة أغاني الضياء هناك ألفاظ وتراكيب رومانسية الانتماء مثل: بسمة طفل، الصباح، السنا، شقشقة الطير، قطر الندى، همس النسيم، الطيور الحبيبة. أما قصيدة أعيديني فنجد فيها ألفاظا وتراكيب مثل: فراشاتي، سنابل، حقل، الغدير، النوار، الصفصاف، التين، قريتنا، صباباتي، أصحابي، أزهاري، نسريني، بساتيني ، الواحة الخضراء،. وأما في قصيدة عيون عربية فنجد ألفاظاً وتراكيب مثل: جدول، العصافير، الشط، النوارس ، الشواطئ ، الفؤاد، خمائل هدبيك، اشتعال اللهيب.

     وانحياز الشاعر إلى هذا النمط،من الألفاظ والتراكيب،يعد مؤشراً دالاً لا على نفوره من جهامة الواقع واحتجاجه الفني على أسقامه فحسب، بل هو دال-أيضاً- على نظرته إلى الطبيعة بوصفها الأم الرءوم؛ التي يجد بين أحضانها، من البراءة والطلاقة والجمال، ما يستعيض به عن جهامة الواقع وصقيع الغربة وصلادة جدران الميادين. إنَّ هذه الملامح الرومانسية التي تأخذ شكل الظاهرة تصل محمد فؤاد بغيره من شعراء الرومانسية؛ الذين فاضت أشعارهم بالحزن، والذين نظروا إلى الطبيعة بوصفها الأم الرءوم التي يجدون بين أحضانها ما يعوضهم عن أسقام الواقع.

وفي لغة الشاعر تنزاح الدوال عن مواقعها، تارة تحت ضغط النحو، وأخرى تحت ضغط المعنى. وبهذا الانزياح تكتسب اللغة جانباً من شعريتها وقدرتها على تأريق المتلقي، ولعل من أسطع نماذج الانزياح، ذلك التواتر الكثيف للتقديم والتأخير في مستهل قصيدة متفرد في حدائق المدى:([6])

متفرد

لك في مسامرة الجراح وسيلةٌ

لك غايةٌ

لك في الفصول حكايةٌ

لك في المساء قصيدةٌ

لك في اصطفاء فراشة الأحلام

من غصن الخيال مهارةٌ

لك في دروب قوافل الشعراء

-ثمَّة- صحبةٌ..لك رايةٌ

لك في منافسة الخيول مدىً

ولي شوقُ المدى.

فقد قدم الجار والمجرور:" لك" بوصفه خبراً، وَأَخَّرَ المبتدأ في ثماني جمل شعرية، وهو إجراء يبرره كون المبتدأ نكرة في: وسيلة، غاية، حكاية، قصيدة، مهارة، صحبة، راية، مدى. ويشف- الإجراء نفسه- عن نزوع إلى تأكيد تفرد المخاطب؛ الذي جرَّده الشاعر من نفسه،بمكانة تؤهله لكي يتصدر الجمل الشعرية بحيث يكون في بؤرة اهتمام المتلقي.

     وقد قدَّم الشاعر على المبتدأ النكرة تراكيب عديدة أخرى وهي: في مسامرة الجراح، في الفصول، في المساء، في اصطفاء فراشة الأحلام من غصن الخيال، في دروب قوافل الشعراء، في منافسة الخيول.ولو لم تتقدم تلك التراكيب لكانت أوصافاً للنكرات :"وسيلة، غاية، حكاية، قصيدة، مهارة، صحبة، راية، مدى"، ولما تحقق بها ما يستهدف الشاعر إثباته للمخاطب من تفرد. هذه ملاحظة.

ملاحظة أخرى: وهي أنَّ الشاعر آثر تقديم الجار ومجروره على المبتدأ المعرفة في قوله:" ولي شوق المدى"؛ ليحقق اختصاصاً هيهات أن يتحقق لو أنه احتكم إلى المعيار جاعلاً المبتدأ:" شوق المدى" في صدارة الجملة؛ إنَّه يطمح إلى ألا يشاركه شريك في امتلاك الشوق، وللتعبير عن ذلك بدقة أزاح الخبر عن موقعه التقليدي؛ دافعاً به إلى صدارة الجملة برغم كونه معرفة.

وفي بعض القصائد لا يصرح محمد فؤاد بكل شيء، بل يسقط بعض عناصر التركيب اللغوي؛ إثراء للإيحاء وتحفيزا لخيال المتلقي؛ فمن ذلك قوله في ختام قصيدة مرفأ:([7])

وقد وجدت

مع الترحال مرفأنا

وكنت بالأمس

والأمواج تطويني.

فقد أضمر خبر الناسخ:" كنت"؛ تاركاً المتلقي يعمل خياله وعقله بحثا عن الخبر.

     وأحيانا يمزج بين الإضمار والتنقيط، على نحو ما نجد في قوله من قصيدة يا مريمية:([8])

     يا مريمية

     يا كتاب بطولة عذراء

    يا شوقا إلى نسرينةٍ

    في القلب

    يا صوت اليمامِ

   وقد بكى قُربي

   فأدمى مقلتيَّ

  فسكبت من شعري عليَّ

.....

فالشاعر يثري القوة الإيحائية للفعل "سكب" بإضمار مفعوله، ويوظف الانزياح الطباعي مكتفيا بالتنقيط؛ ليشرك المتلقي في سد الثغرات والبحث عن مفعول يتلاءم مع " فسكبت من شعري عليَّ". ومع تباين قدرات المتلقين على التأويل تتباين المفاعيل التي يتأولونها؛ بحيث يحقق الإضمار أكثر مما يحقق الإفصاح.

     وأحيانا أخرى يؤثر الشاعر التعبير بالمضارع؛ ففي قصيدة مثل "القصيدة تشكو الغياب الطويل" يستأثر المضارع بكثافة حضور لا يستأثر بمثلها غيره من الأفعال؛ يؤكد ذلك أنَّ عدة الأفعال المضارعة خمسة وخمسون فعلاً في مقابل اثنين وثلاثين فعلاً ماضياً. بل إنَّ المضارع هو- وليس الماضي أو الأمر- الفعل المهيمن على قصيدة أغاني الضياء.وانحياز الشاعر للمضارع يضفي على قصيدته من الحركة والتجدد ما لا يضفيه عليها الماضي أو الأمر.

     وللشاعر ولع بالتكرار على اختلاف مستوياته؛ فعلى مستوى الحرف يتكرر ضمير" الأنا" في قصيدة كلمات إلى الوطن المغترب، مؤشرا تارة على حضور الذات في أسماء مثل:" وطني: تكررت أربع مرات"، قومي، خيلي: تكررت مرتين"، رمحي، كوني"، ومؤشراً تارة أخرى على امتزاج الذات بالقدرة على الفعل؛ كما في الأفعال:" أستوسد، أنتظر، أزجر، أسرجت، أشهرت، أشعلت، ألقيت، صحوت، قمت، حملت، أحملها، أجري، أبحث، أمتطي، أسأل".

       كذلك يتواتر تكرار الحرف "قد" وكاف الخطاب في قول الشاعر من قصيدته: القصيدة تشكو الغياب الطويل:([9])

     وقد حاصرتك الزلازل،

     قد أربكتك العواصف،

     قد أسلمتك القبائل،

     لما صحبت الغمام

       وعناية الشاعر بما بعد المكرر واضحة؛ فقد أتى بثلاثة أفعال ماضية بعد الحرف قد:" حاصرتك، أربكتك، أسلمتك"، وجعل كاف الخطاب مفعولاً متكرراً للثلاثة الأفعال، كما أتى بعد كاف الخطاب بثلاثة فواعل كلها جمع تكسير:" الزلازل، العواصف، القبائل"، وكلها معرف بالأداة "ال"، وكلها مرفوع بالضمة.

وعلى مستوى الكلمة المفردة هناك كلمات تتكرر في ثنايا القصائد؛ فقد سبق أن أشرنا إلى أن كلمة الحزن تكررت أربع مرات في ثنايا كل قصيدة من القصائد الثلاث: عام الحزن،والقصيدة تشكو الغياب الطويل،ووردة أخيرة للجرح. وشف تكرار الكلمات عن حرص الشاعر على تخير المواقع التي يوظف فيها التكرار؛ ففي قصيدة متفرد في حدائق المدى يكرر كلمة متفرد في ثلاثة مواقع: الأول منها جاء في استهلال القصيدة:([10])

متفردٌ

لك في مسامرة الجراح وسيلةٌ.

وجاء الثاني في منتصف القصيدة:([11])

متفردٌ

لك في الفصول حكايةٌ

أما الثالث والأخير فقد جاء في ختام القصيدة:([12])

ومضيت تخترق المدى

متفردا.

وقد يجمع الشاعر بين تكرار الاسم "الحزن" وتكرار الفعل" تسكت/ تنطق"؛  كقوله في قصيدته المعنونة: القصيدة تشكو الغياب الطويل:([13])

يسلمني النيل للحزن،

والحزن للبحر، والجو للريح

يا من تُقَلّب في أعين النازحين،

وتسكت..تنطق..تسكت..تنطق.

     وعلى المستوى التركيبي يكرر الشاعر تراكيب بعينها داخل هذه القصيدة أو تلك؛ ففي قصيدة : متفرد في حدائق المدى تتكرر مرتين جملة:" لك في الفصول حكاية" ([14])، وفي قصيدة: القصيدة تشكو الغياب الطويل يتفاقم إحساس الشاعر بكونه مطارداً فيعمد إلى تكرار الجملة الخبرية :" وإني المطارد"([15]). وفي قصيدة : أعيديني يستحصد الإحساس بصقيع الغربة والشوق العارم إلى الأم والأصحاب وبراءة الطبيعة ؛ مما يحمل الشاعر على تكرار الجملة الطلبية :" أعيديني" ست مرات؛ إذ يقول:" أعيديني إلى حقلي" ([16])،" أعيديني إلى النوار"([17])، "أعيديني إلى أمي"([18])، "أعيدي لي صباباتي وأصحابي" ([19]) ، " أعيديني لأزهاري ونسريني"([20])، " أعيديني لظلِّ الواحة الخضراء"([21]). وفي قصيدة يا مريمية يكرر جملة النداء:" يا مريمية" تسع مرات. وكثيراً ما يتخذها مفتتحا للمقطع الشعري فينطلق منها تارة إلى الاستفهام، وأخرى إلى الأمر.

     وأحيانا يكرر تراكيب استفهامية تعكس حدة الإحساس بالقلق والحيرة؛ فمن ذلك تكرار التركيب الاستفهامي: " هل + جئت" و" أم+ جئت" ؛ وذلك في قوله من قصيدة عيون عربية:([22])

     محزونة العين:

     هل جئتِ من حصن بابل؟

     أم جئتِ من حيث عقبةُ

     أرسى بأفراسه في المياه؟

     أم جئتِ من شاطيء النيل؟

     أم جئتِ من بيت لحم؟

     وحين أتيت مررت بخيمة ليلى ابنة العم؟

     وأحيانا أخرى تلح على وجدانه تراكيب بعينها فتتسرب إلى أكثر من قصيدة؛ نجد مثلا لذلك تكراره التركيب اللغوي: " النشيد النشيج"  في قصيدتين؛ إحداهما: القصيدة تشكو الغياب الطويل، والأخرى: قصيدة وردة أخيرة للجرح .كما يكرر التركيب الإضافي: "جزر الصمت" في قصيدتين؛ إحداهما قصيدة: رسالة إلى أبي ذر ([23]) والأخرى: قصيدة بردية قديمة حديثة.([24])

     ولم يكن التكرار صبغة يتزين بها وجه القصيدة، بل كان أداة فنية تستنفد ما يحتدم في وجدان الشاعر من أشواق وهواجس وقلق. وبدهي أنَّ أكثر الأشياء أهمية عند الشاعر هي تلك التي تلح على وجدانه وتتسرب إلى قصائده بوعي منه حيناً وبغير وعي حينا آخر؛ لذلك كان التكرار وسيظل أحد أسطع المرايا التي تجلو جانباً كبيراً مما تهجس به نفوس الشعراء.

     وتنفتح بعض قصائد الديوان على التراث الديني والتاريخي؛ بحيث تمتزج لغة الشاعر بلغات مهاجرة من نصوص أخرى؛ أما الانفتاح على التراث الديني، فمنه ما جاء في قصيدة: بردية قديمة..حديثة:([25])

     فمن يستحم بماء الحقيقة

     يوما

     سيصلب فوق جذوع نخيل

     الشتاء

     وتقطع كل يد حين تخرج

     بيضاء من غير سوء

     وينفى إلى جزر الصمت كل

     لسان تحلُّ به عقدة.

ففي قوله:" وتقطع كلُّ يد حين تخرج بيضاء من غير سوء" يمتزج البشري:" وتقطع كل يد" مع المقدس من قوله تعالى مخاطباً موسى عليه السلام:" واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى"(طه: آية 22) ولكن الشاعر ينزع إلى إحداث مفارقة بين دلالة الصياغة القرآنية والدلالة التي يستهدف إنتاجها وإيصالها إلى المتلقي، وهذا النزوع يدفعه إلى تفكيك الصياغة القرآنية والانتقاء منها وإعادة توزيع الدوال بحيث يتضاد دلالياً مع مرجعه القرآني؛ فإذا كانت يد موسى- عليه السلام- خرجت بيضاء كالقمر في أعقاب امتثاله للأمر الإلهي " اضمم يدك إلى جناحك"، فإن اليد التي تخرج بيضاء من غير سوء يكون القطع جزاءها في رؤية محمد فؤاد، وكأنما كان على اليد أن تخرج سوداء من غير خير لتنجو من القطع.

     كذلك يمتزج البشري بالمقدس في قوله:

         "    وينفى إلى جزر الصمت كل

               لسان تحل به عقدة."

إذ تتردد في الجملة الأخيرة أنفاس موسى –عليه السلام- وشكواه إلى الله من لثغة تقيد لسانه وتجعله أقل كلاماً وأكثر صمتاً وأحوج إلى فصاحة أخيه هارون، وهذه الأنفاس المفعمة بالقلق والرجاء؛ القلق الموسوي من اللثغة، والرجاء من الله أن يحل عقدة واحدة وأن يعين بمن هو أفصح لسانا وأقدر على إفخام الخصم بالحجة، تستدعي- أي الأنفاس- بدورها قوله تعالى على لسان نبيه موسى:" واحلل عقدة من لساني "(طه: آية 27) لكن المفارقة تكمن في التعارض الدلالي بين نواتج فك العقدة في المقدس ونواتجها في البشري؛ ففي المقدس نجد الناتج هو تحرير اللسان من اللثغة كي يتحقق الإفهام، وفي البشري نجد الناتج هو النفي إلى جزر الصمت عقوبة لمن تحل عقدة لسانه بحيث تظل الألسنة لثغاء لا تبين ولا تحقق إفهاماً.

     نحن بإزاء مفارقة ساخرة، مفارقة يهجو بها الشاعر – دون أن يتوكأ على أية كلمة من قاموس الهجاء- واقعاً تنقلب فيه الأوضاع رأساً على عقب.

     ولإنتاج المفارقة بين الصياغة القرآنية والمستهدف إيصاله للمتلقي مهَّد الشاعر بالتركيب الشرطي؛ الذي يقلب أفق التوقع لدى المتلقي:" من يستحم بماء الحقيقة سيصلب فوق جذوع النخيل"، ثم توالت الجمل المعطوفة المحملة بدلالات بالغة الفظاظة: " وتقطع كلُّ يد حين تخرج بيضاء من كل سوء" ،" وينفى إلى جزر الصمت كلُّ لسان تحل به عقدة"، وهكذا تقوم علاقات الحضور بالتشويش على الدلالة الغائبة؛ نعني قوله تعالى:" تخرج بيضاء من غير سوء"، وهذا التشويش لا يعني أن الشاعر يزيف الخطاب القرآني، بل يعني أنه قوي الإخلاص لخصوصية خطابه الشعري.([26])، قوي الحسِّ بالمفارقة التي تزيف الحقائق.

     وقد يتخذ الانفتاح على التراث الديني صورة استدعاء شخصيات مقدسة تستدعي بدورها نصوصا قرآنية؛ يظهر هذا في قوله من قصيدة يا مريمية:([27])

 قولي لهم:

ما مسني بشر

ولكني حملت الحزن

في قلبي شعاعاً

وانتبذت به مكاناً

دونه النجم العلي

................

هزِّي إليك بجذع أغنية

تساقط روحك

الملأى نقاء.

ففي النص السابق تتجادل علاقات الحضور والغياب؛ فقول الشاعر: " ما مسني بشر" يستدعي قوله تعالى على لسان مريم إذ تدافع عن عذريتها وطهرها: " أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر"(مريم: آية20). وأما قوله: "وانتبذت به مكانا" فيستدعي قوله تعالى: "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" (مريم: آية16). وأما قوله:" هزي إليك بجذع أغنية تساقط روحك الملأى نقاء" فيستدعي بدوره قوله تعالى: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" (مريم: آية 25).

     أما الانفتاح على التراث التاريخي فمنه قول الشاعر في قصيدة: وردة أخيرة للجرح:([28])

نعم كان جسمي به

نحو بضع وسبعين

ما بين ضربة سيف،

وطعنة رمح، ورمية حزن،

ومرمى الحجارة-لاشك- أكثر.

ويذبل جرحي مثل الورود،

وتسكن فيه صغار الطيور.

فقد استدعى الشاعر البطل التاريخي: خالد بن الوليد؛ لا لينصب نفسه متحدثاً باسمه، بل ليعبر به عن تجربته المعاصرة طارحاً على تجربته أطيافاً من تجربة خالد. وهو لم يستدع خالداُ باسمه بل يستدع بعض أقواله متخيراً منها ما يلبي حاجة المعنى ومتطلبات العروض في وقت واحد. والشاعر الذي يوظف آلية القول يهتم كثيراً بالأقوال الأكثر شهرة والأوثق صلة بتجربته وخاصة إذا لم يصرح باسم القائل. وبهذا الوعي انتقى محمد فؤاد من أقوال خالد الجملتين :"ضربة سيف" و"طعنة رمح"؛ لما لهما من شهرة وبخاصة عند ذوي الثقافة الواسعة، ولما لهما من قدرة على تجسيد المفارقة بين شرف الشهادة؛ الذي كان يتطلع إليه بطل/ خالد، طالما خاض الحروب وحقق الانتصارات وتلقى ضربات السيوف وطعنات الرماح، وبين إحساسه بالأسى لنفسه وهو ينتظر الموت نائما على فراشه كمن لم يخض حرباً أو يتلق في حياته ضربة سيف أو طعنة رمح!

    وميزة الاستدعاء بالقول أنه يحقق هدفين: التناص الأسلوبي، واستدعاء الشخصية التاريخية؛ فحلول الجملتين: "ضربة سيف/طعنة رمح" يعد تناصاً أسلوبياً يستدعي بدوره- القائل وقوله: "لقد شهدت مائة زحف، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي؛ كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء" ([29])، وهكذا يتضح ما يحف بالقول من الملابسات وأطياف المعاني: زهو خالد بما أنجز من انتصارات وما تلقى من ضربات وطعنات، ثم أساه على شهادة لم ينل شرفها، واستسلامه القدري لمصير لم يختره لنفسه ولا يملك الإفلات منه أو تغييره.

     ويستدعي محمد فؤاد شخصية أبي ذر الغفاري؛ وذلك في قوله من قصيدة: رسالة إلى أبي ذر:([30])

     ستمشي وحيدا

     وحين يحاصرك القوم..

     تبقى وحيدا

     ...

     ويلمزك القوم

     أو يقذفونك..

     من بعد ما كنت فيهم أمينًا

     وسوف يصادر كل كلامك

     كي يتلاشى على شفتيك

     وتُنْفَى إلى جزر الصمت وقتا طويلا

     وحين تموت تكون وحيدا

     لتبعث في كل ناحية من جديد

لقد اتصل الشاعر بأبي ذر الغفاري منتقياً من ملامحه التراثية ثلاثة: الأمانة والوحدة والنفي، ثم لم يلبث أن انفصل عنه ليضفي عليه ملامح جديدة ؛ منها أنه سيبعث في كل ناحية من جديد، ومنها أن الإذاعات والجرائد تهدده وكأنه يعيش بين ظهرانينا.

      ومهما يكن من أمر فالشاعر محمد فؤاد ظل يغرد في ديوان وردة أخيرة للجرح بصوته هو، وظل مفعم الحس بالوطن الذي يذوب فيه عشقاً؛ مما يجعل ديوانه جديرا بقراءات أخرى، مع يقيني بأنه سيظل يهدي جراحنا ورودا تضمدها..

 

 

 



(1)محمد فؤاد، ديوان وردة أخيرة للجرح، ص18، ط: مركز الحضارة العربية، القاهرة 2017م.

([2])ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص21.

([3])السابق، ص16.

 (1)نفسه ، ص30. وانظر نماذج أخرى للحزن في مستهل قصيدة: كلمات إلى الوطن المغترب، الديوان، ص32.

 (2) ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص25.

([6]) ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص 8.

([7]) ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص93.

(2) السابق، ص 76.

([9])ديوان وردة أخيرة للجرح، ص27.

([10]) السابق، ص 8.

([11]) نفسه، ص 10.

([12]) نفسه، ص 10.

([13]) ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص26.

([14]) السابق ، ص8، ص10.

([15]) نفسه، ص26.

([16]) نفسه، ص16.

([17]) نفسه، ص16.

([18]) نفسه، ص17

([19]) نفسه، ص17.

([20]) نفسه، ص18.

([21]) نفسه، ص18.

([22])نفسه، ص 59.

([23])ديوان وردة أخيرة للجرح، ص43،

([24]) السابق، ص47.

([25]) نفسه، ص47.

([26]) للاستزادة انظر، أحمد مجاهد ، أشكال التناص الشعري، ص389:388، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1998م.

([27]) ديوان وردة أخيرة للجرح ، ص72:71.

([28]) السابق، ص55.

([29]) ابن عبد ربه، العقد الفريد 1/25، شرح وتبويب: أحمد أمين، ط: لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1965م.

([30]) ديوان وردة أخيرة للجرح، ص43:42.


نظرة في ديوان "وردة أخيرة للجرح" بقلم دكتور : ربيع عبد العزيز _ أستاذ النقد الأدبي-كلية دار العلوم- جامعة الفيوم
د. ربيع عبد العزيز 



نظرة في ديوان "وردة أخيرة للجرح" بقلم دكتور : ربيع عبد العزيز _ أستاذ النقد الأدبي-كلية دار العلوم- جامعة الفيوم
الشاعر الأديب/ محمد فؤاد




Share To: