أبولونيا.. جمال ليبي متعدد الوجوه | بقلم الكاتب الصحافي خالد جهاد
لم ينصف الإعلام (كعادته) ليبيا فلم نعرف الكثير عن الجمال الذي تتمتع به والإرث الحضاري والتاريخي الذي تحتضنه أرضها ويجعلها بلداً استثنائياً يمتلك مقوماتٍ تضعه في مصاف الدول المتقدمة كالكثير من بلادنا التي تستحق تلك المنزلة بجدارة، فلديها عدد كبير من المواقع الأثرية ذات القيمة والمكانة المرموقة على أكثر من مستوى، ومنها موقع (أبولونيا) الليبي الذي يمتد تاريخه لأكثر من ثلاثة آلاف عام على الأقل..
والذي أسسه الإغريق في منطقة (قورينائية) شرق ليبيا وتحديداً ضمن منطقة الجبل الأخضر، وسميت بهذا الإسم نسبةً إلى معبودهم (أبوللو) وكان مقر عبادته في جزيرة دلفي أقدم معبد ديني في بلاد اليونان القديمة، وهو إله للكثير من الأمور (حسب ما اعتقد اليونانيون) فهو إله الشمس، إله الموسيقى، إله الرماية، إله الشعر، إله الرسم، إله النبوءة، إله الوباء و الشفاء، إله العناية بالحيوان، إله التألق، إله الحراثة، كما أنه إبن الإله (زيوس) والإلهة (ليتو) والأخّ التوأم لأرتميس وهي إلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وإلهة الإنجاب وكل ما يتعلق بالمرأة، وتعتبر (آرتميس) إحدى أهم وأقوى الآلهة، حيث أنها تنتمي للأولمبيين أو الآلهة الإثني عشر، وهي ابنة كل من (زيوس) ملك الآلهة والإلهة (ليتو) وهي أيضاً الأخت التوأم لأبولو..
وقد حملت هذا الإسم حتى ظهور المسيحية لتتحول بعده إلى (سوزوسا) نسبةً إلى أحد ألقاب السيدة مريم العذراء عليها السلام ومعناه المنقذة، وبعد الفتح الاسلامي تحول الإسم إلى (سوسة)، والتي تعد ثاني أكبر مدينة رومانية في العالم وهي واحدةٌ من أجمل المناطق التي عرفت بمساحاتها الخضراء الشاسعة ومحمياتها الطبيعية وجبالها الشامخة وأرضها الخصبة ومناخها الفريد، وتتعدد أشكال الحياة البرية فيها كما تضم الكثير من الحيوانات والفصائل النادرة، وهي من أهم المواقع الليبية وأجملها حيث قام اليونانيون بتسميتها وتأسيسها عام ٦٣١ قبل الميلاد كما اتخذوها كميناءٍ خاص بقورينا التي تبعد عنها نحو عشرين كيلو متراً ، كما وتصنف كواحدةٍ من إحدى المدن الليبية الخمس (البنتابوليس) في العصر البلطمي لإحتوائها على خمسة مراكز عمرانية كبيرة هي قورينا (شحات)، أبولونيا (سوسة)، طلميثه (بطوليمايس)، يوهيسبرديس – برنيقي (بنغازي)، وتوكره (العقورية)، والتي أسسها الإغريق لتكون مركزاً لحضارتهم في إفريقيا منذ بداية القرن السابع قبل الميلاد وتقع جميع هذه المدن في شرق البلاد، ولكلٍ منها طبيعتها الخلابة وقيمتها الجمالية والثقافية والحضارية..
كما وأن المعالم الأثرية التي تم اكتشافها في هذه المدينة العريقة تعبر عن ثرائها ومرورها بمراحل متعددة تبدأ من الإستيطان الإغريقي إلى الروماني فالبيزنطي ومن أهمها: أسوار المدينة والتي يعد أشهرها السور الخارجي الذي تم بناؤه في العصر الهليني وأعيد ترميمه في العصر الروماني، ميناؤها أو (حوض أوبولنيا) المعروف محلياً باسم (القوليبا)، كهف (هوا فطيح) الذي يعد أحد أكبر التجويفات الطبيعية في حوض البحر المتوسط، الجزء المحصن من المدينة ونقصد به (الأكروبوليس)، حوض الملكة (كليوباترا) التي كانت تستمتع به عند زيارتها للمدينة، الأبراج والمقابر، الكنائس الشرقية والغربية والوسطى بالإضافة إلى الكنيسة ذات الحنية الثلاثية التصميم والتي تقع خارج الأسوار، قصرالدوق وهو مقر سكن حكام الإقليم، الحمامات الرومانية، الحمامات المجاورة لآثار القصر البيزنطي، والذي استعمله الرومان كمقر للقيادة العسكرية قبل البيزنطيين ويحتوي على ١٠٠ حجرة ولم يتم استخدامه بعد الفترة البيزنطية، والمسرح الإغريقي الروماني قرب الشاطئ خارج أسوار المدينة القديمة وغيرها من المعالم الأخرى..
وقد لفتت آثار (سوسة) انتباه الكثير من الرحالة والمهتمين بالآثار، وبدأت أعمال الحفر والتنقيب فيها منذ عقود وأسفرت عن ظهور الكثير من معالمها فضلاً عن اللقى الأثرية التي استدعت تخصيص متحف تعرض بداخله القطع التي وجدت بالمدينة مثل بعض التماثيل والنقوش الكتابية واللوحات الفسيفسائية حيث يوجد من بين معروضات هذا المتحف قاعدة تمثال تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد نقشت عليه قصيدةٌ شعرية للشاعر (كاليماخوس) تبجل ملك قورينائية (ماجاس)، كما عثر كذلك على نقشٍ جنائزي يعود إلى الفترة الرومانية، ونصب تحديد أرض عليه كتابة منقوشة باللغة الإغريقية يعود إلى القرن الميلاد الأول، وجزء من غطاء قبر عليه رموز إغريقية، كما ويحتضن المتحف العديد من التماثيل من بينها تمثالٌ لآلهة الحكمة (أثينا)، وتمثالان لإمرأتين ثريتين من (أبولونيا) قامتا بأعمالٍ جليلة للمدينة، وكذلك نحت لسيدة قد همّت بفتح صندوق ملابسها يعود تاريخه إلى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كما يحتوي المتحف على بعض اللوحات الفسيفسائية التي عثر عليها في عدة مواقع من المدينة، من بينها لوحة فسيفسائي وجدت بأرضية الكنيسة الشرقية بالمدينة وهي تعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي..
كما تجب الإشارة إلى وجود جزءٍ من آثار (أبولونيا) تحت مياه البحر، ويعلل خبراء الآثار ذلك أنه نتيجة للهبوط المستمر للطبقات الأرضية عن مستوى سطح البحر مما أدى إلى غمرها بمياهه، عدا عن أن زلزالاً مدمراً تحت البحر ضرب جزيرة (كريت) في ٢١ يوليو عام ٣٦٥ ميلادية مما تسبب في غمر مياه البحر لأجزاءٍ من ساحل المدينة ومنطقة الميناء، وعدا عن كل ما ذكر عن آثار (سوسة) وعظمتها فإنها تظل مكاناً ذا خصوصية في ذاكرة الليبيين إبان الإحتلال الإيطالي حيث سجن فيها قائد المقاومة الليبية (عمر المختار)، ومن مينائها نقل على ظهر سفينة إلى مدينة (بنغازي) ثم إلى بلدة (سلوق) التي أعدم فيها، لتتحول إلى أحد معاقل النضال الوطني والإنساني إلى جانب جمالها وتاريخها العريق الذي طبع بصماته في كتاب الحضارة التي لا تموت..
خالد جهاد..
خالد جهاد |
Post A Comment: