غَثَيَانُ النُّبَـلَاءِ عَنْبَـرٌ | بقلم الكاتبة الأديبة / آيات عبد المنعم
غَثَيَانُ النُّبَـلَاءِ عَنْبَـرٌ | بقلم الكاتبة الأديبة / آيات عبد المنعم |
إن لم تكن تشعرُ بالغثيان مثلي من هذا الواقع المُتردي لا تتابع القراءة، إنَّه نصٌّ طويل يُعبرُ عن أنين حشرجات الرُّوح،
حيـنَ يتكاثفُ ضباب الظُّلُمات، وتَغدو التَّفاهةُ نظامَ عيشٍ يقتاتُ عليه عموم النَّاس، ويُصبحُ الكلامُ البذيء سُنَّةً اعتياديّة بـل واجبة، إلاّ على أولئك الذين اتخذوا النورَ ظِلاًّ، إنَّهُم كثيرون بقوَّتِهم رغمَ قِلَّةِ عددهم؛ أثرهم كنجمَةٍ حُبلىٰ بالضوء في غسق اللّيل، لا يُبالون بكونِهم لحناً جميلاً منبوذاً في زمـنِ النشاز، إن رأيتَ الكون مبتسماً في زوايةٍ ما، فأعلمْ أنَّ طيفَ أحدهم تركَ زهرةً ومضىٰ..
أن تقولَ لصاحبِكَ في الجامعة: «صباح الخير.. بحبك يا حمار، أو تمنحَ لاسمه نوعاً من الدَّلال المُعنَّف، وحشتني يا جزمة» معناهُ أنَّك بنظرهم تحولتَ من صديقٍ مُملّ إلى "فرفوش".
أن يكونَ لسانكَ مُلطخاً بالوحلِ وقت الجَدِّ والهزل والحبّ، باتَ أمراً مُستساغاً، أما الحديثُ بطعم الورد أصبحَ ضرباً من ثورة عاشقٍ ناسكٍ، ولوثة شاعرٍ متيمٍ مجنون..
حتَّىٰ طموحُكَ في منح عقلِكَ نورَ المعرفة، لن يعصمَ أذنيك من سماعِ شتائم سُفليَّة في محاضرة فلسفيّة على منبر الدراسات العليا، وعليكَ أن تبذلَ جهداً إضافياً كي تستخلص العلم من الشوائب، ستأخذُ وقتاً طويلاً كي تصل إلى إبريز النقد العلمي الذي يبني أي حضارة بعنصرين الهدم والبناء معاً..
إن لم تتحلىٰ بالعين الناقدة، ستَتُوه في دوامة الحداثة الصغرى وما بعدها، حيث صار كلُّ شيء قابلاً للتفكيك العبثيّ، فقد يُدخلك "جاك دريدا" في لعبة تشظي النصّ، وتحتَ عباءة وهم الحُريّة ومنح المركزية للإنسان تمَّ التطاول على المقدّسات؛ "نيتشه" أعلن موت الاله، "رولان بارت" أعلنَ موت المؤلف، إن تجاوزت فلسفة "شوبنهاور" التشاؤميّة، ستسقطُ في غثيان "سارتر" تعيشُ وحيدا وسط كُتُبِكَ، «وترىٰ الآخرين هم الجحيم».
كلُّ ما فات من فلسفات وغيرها كانت بمثابة براكين فكرية، لن نستطيع اختزالها في كلمات، إن أغلقت فُوَّهاتها وتجاوزت دخانها الساخن، وارتديت نظارة "هيجل" المتعالية التي لا ترى سوى تفوق الإنسان الغربي ذو البشرة البيضاء، ستجِدُه الآنَ إنساناً ثريًّا بالتقنيات والعلم التجريبي، يُزينُ جعبةُ روحه بنصفِ رغيفٍ من العدل، وعينٍ واحدةٍ ترىٰ الكون حبة قمحٍ صالحةٍ للأكل..
في الكثير من الأحيان يُصيبني الغثيان الفكري بمجرد أن أقرأ كم التناقضات التي تعتري منطق العقل الغربي، الذي يمنحُ الإنسان حريتهُ المطلقة في اختيار هويته الجنسية وتقرير إنهاء حياته، وتقمصِ عيشة الكلاب، وفي المقابل ينفي حقَّ اختيار الإنسان لردائه الشرعي أو نصرة القضية الفلسطينية ومقاومة المحتل، ويشجع تجارة السلاح وتصدير الحروب ودعم الأنظمة الاستبداديّة.
حين أقول العقل الغربي، لا أقصدُ كلّ الأفراد الحاملين الجنسية الأجنبية، بل أقصد ذاك العقل الحاكم بقوانينه وفلسفته الذي يُقدم نفسه كمشروع حضاري فريد من نوعه، مُهيمن على الشعوب الأخرى..
وحتماً نحنُ في الشرق لسنا بأحسن حال، وإن كنا لا نرى كنزنا المخبوء تحت رُكامِ جَلدِ الذات وتعظيم الآخر، نلوكُ عاداته السلبية كمرآةٍ لا ترى إلا جهة الغرب سبيلاً..
إن سألتَ مُعلميك في قاعاتِ الدرس عن الطريق الآمن للخروج من هذا التيه، سيقولون أنَّ عليك أن تُتقن علم المناهج، وتعرفَ الفرقَ بين المنهج والمنهجيّة، وقد تقوم بينهم قيامة المصطلحات الكُبرىٰ ويعلو الصراخ؛ ولن يهمس في أذنيك إلا حكيماً منهم، يَنصحُك بأن تطرقَ أولاً وأخيراً ودائماً باب «أخلاقيات العلم»، فلا تنفصل عنه مطلقاً في رحلة البحث العلمي.
وأنا أخطو على سبيل النجاة، عرفتُ أنَّ «الأخلاق» ليستْ هي الفلسفة اللَّيِّنَة أو السهلة، كما تراها بعضُ عيون كِبـار أساتذتنا المختصين، الّذين يميلون إلى فلسفة العلم باعتبارها الفلسفة الصعبة.
كُلما توغلتُ في طيني، أو تأملتُ الغُبارَ المُتناثر على وجه بلادي، المُتغلغل في مسامِ أوراق الشجر وجلد البشر، دونَ يدٍّ رؤوفة تمسحُ عنهُ كلَّ هذا التعب..
أدركتُ أنَّ «الأخلاق» هي القاعدة الصلبة التي تُبنى عليها المجتمعات، إنَّها العمود الفقري لشتىٰ المجالات الحياتيّة، ولن يستقيمَ وطنٌ ظهرهُ مكسور..
بالأخلاق الحميدةِ نقصُّ لسانَ الزُّور، نكسر عصىٰ الظالم، ولن تنْحَنِي قامة الفقير، وسنطبعُ على جبين العدل قُبْلة، بِها محالٌ أن يقذِفَ العِلمُ قنبلةً ذريّة في قلبِ الآخر، ولن تغدو فلسطين وجهة نظر نسبيّة!
في هذا التيه، لا أريد أن يُصيبني غثيان "سارتر" فأعيش وسط مكتبتي بين كومة ورقٍ، أتقيؤ فكراً عبثيّاً، وأوشم على ذراعي كما فعل زميلي في الجامعة «الآخرون هم الجحيم»، لا أعتقد أن هذه النظرة للآخر إصلاحيّة، إنَّها تلتقي مع عقلٍ داعشيٍّ اقصائيٍّ رغم اختلاف الرؤى والمُنطلقات..
إنَّ "الآخر هو أنتَ بتصورٍ آخر"، وإن سقطَ احترام الاختلاف، ستزيدُ الحروب على كوكب الأرض..
أحتـاجُ أن ألحقَ ركبَ سفينة نوح، وأتلو نداءً يونسيَّ الملامحِ يُنقذُ أصابع الروح من إشعال الحرائق، أنا لا أكتبُ الآن نثراً أزينُ به الأوجاع، عندما حاولت الهروب من عتمة المحيطات، غرقتُ في قطرةِ ماء، والتقمْتُ حوتـاً ما، لذا حين أشعرُ بالغثيان من تفاهة ما حولي؛ يتقيؤُ حرفي عنبراً ويمسحُ القُبحَ عن عيني!
يستيقظ المعنى اليتيم بداخلي، وأتعلَّمُ من بطن الحوت ورحمِ الورد، أنشودة الشُّهداء والمُصلحين... على عتبة كلِّ معركةٍ تقذفُها الحياة بوجهي، أجتهدُ في أن أنظِمَ غضبي وأنفاسي الثائرة، وأطوفُ في فلكِ عبارتين:
«غَثَيَانُ النُّبَـلَاءِ عَنْبَـرٌ..
وإنْ نُحِـرَ الوردُ لـنْ ينـزِفَ إلاَّ عطـراً..»
#آيات_عبد_المنعم
بيـروت..
24/ صفر / 1445
10/ سبتمبر/ 2023
غَثَيَانُ النُّبَـلَاءِ عَنْبَـرٌ | بقلم الكاتبة الأديبة / آيات عبد المنعم
Post A Comment: