لا تُطْعِمْ نُـورك بالمجان.. | بقلم الأديبة المصرية آيات عبد المنعم
يقولون: «لا تُطْعِمْ نورك بالمجان..
حتّىٰ في فمِ الجائع أو العطشان... المجان لا يُقدَّر!»..
أمضغُ هذه الكلمات على مضض لا أستسيغُها كوجبةٍ سهلة الهضم، أؤيدها بالمطلق إذا تعاملتُ مع قلبٍ برجوازي، يرىٰ كلَّ ما حوله سلعة قابلة للتفاوض؛ لكنَّ تعميمها بالمطلق يعبثُ في عقلي المُشاغب ويضعها في ميزان النقد، يُصاحبني ظلالُ معانيها، ونجوبُ سويةً في راحة الكون..
أرقبُ دمع الأمهاتِ حُبلىٰ بالمواجع، كزهرٍ يذبلُ عطره، كي تتغذىٰ الجِرارُ بالعسل، وينمو العطرُ بين شفتي المريض..
ألمحُ النهر يُهدِرُ ماؤهُ للعابرين، دونَ ضريبةٍ يقتصها مع كلِّ شربة، كحبيبٍ منحَ لحبيبتهِ قُبْلةً دافئة، دونَ أن يطلُبَ منها أن تغفو على كتفيه..
أرىٰ جيوبَ الرُّوحِ خاويةً في عيونِ الآباء يَهزُّها الرّيح، الغريب أنَّهم يبلعون الرِّيح دون شكوىٰ، ويطعمون أبنائهم حلوىٰ من فتاتِ أعمارهم المسحوقة في هذا الوطن...
آه...الوطن ذاك الطينُ الجشع، يبلعُ الورد دون شبع، يظلُّ يأكلُ
كل ما يسيرُ على قدمين، يشربُ عرق الفلاحين، ويسرقُ الشمس حين تلمعُ فكرةً في فمِ العالِم، وقد يقتلُ الحكيم، حتى الحجارة الّتي تُعمِّر البيوت، يراها كائناً حيّاً وقت الحروب، عليها أن تحمل البندقية، ولا بأس أن تفنىٰ، وتهبّ الذكريات زرعاً للأرضِ بالمجان..
لا بأس أن يكون كل ما فات بالمجان، إنَّ الأوطان لن تُبنىٰ بعيون التُّجار الشَرِهة، بـل بدماء الشُّهداء الزكيّة، الذين استعاروا نور الشمس، وعطر الماء، وكرم النجوم في الليل، وهبوا أجسادهم شمعةً تنطفئ على عتبة الوطن ليعلو، لا يكترثون إن غابت أسماؤهم كفاتحين، فتاريخ السماء يُقدِّرُ ما كان بالمجان، قُربةً لعينِ الرَّحمن..
الآن بعد هذا العراك الفكري الذاتي المجاني، أشعرُ بالامتلاء رغم أنِّي لم أربح في هذه الجولة إلاّ وطني أضعُني في جيبهِ ورقة شهيدٍ قابلة للتلف، مجهولة الهويّة، تفنىٰ في أيّ لحظة، المهم أن يعودَ طيـنُ بلادي منتـصراً..
آيات عبد المنعم.
بيـروت..
10/ ربيع الأول/ 1445هـ
25/ أكتـوبـر / 2023مـ
Post A Comment: