النصراوي شاعر تسلح بالكثير من الأدوات التي أوصلته لإنتاج قصيدة مركزة | بقلم الناقد العراقي / عماد الدعمي


النصراوي شاعر تسلح بالكثير من الأدوات التي أوصلته لإنتاج قصيدة مركزة | بقلم الناقد العراقي / عماد الدعمي

 

المقدمة 

عماد الدعمي 

     اللغة هي الطريق الوحيد للتعبير عن اشتغالات الشاعر ولا سبيل آخر للتأثير على المتلقي إلا من خلال اللغة ، وعلوم اللغة متعددة ولابدَّ للشاعر من الإلمام بها جميعا حتى يُخرج لنا قصيدةً مركزة مكثفة مؤثرة على وجدان وأحاسيس المتلقي، ومن هذا المنطلق نستطيع التفريق بين الشعراء بل ويمكننا تصنيفهم مع اعتبارات أخرى لا يمكن تجاهلها كتأثير البيئة على الشاعر وسعة الخيال وما يدور حول الشاعر من مؤثرات أخرى .

ووجوبا على الشاعر أن يتسلح بعلوم اللغة كالنحو والتصريف والبلاغة والعروض والقافية والبيان والبديع والإلمام بتاريخ الأمم وبعلوم اللغة ومعانيها ومعرفة مفرداتها وتنسيقها حسب التوظيف المراد منه الجمال .

النصراوي شاعر تسلح بالكثير من الأدوات التي أوصلته لإنتاج قصيدة مركزة ... فبعد اطلاعي على قصائده وجدتُ التراكم المعرفي لديه في نواحي مهمة كالنحو والبلاغة وقد ساعده ذلك على رسم صور شعرية جميلة مؤثرة وإنتاج قصيدة مؤثرة...

لم ترهقه القافية ودلالة ذلك تمسكه بعامود القصيدة العربية الأصيلة مع ملاحظة بعض الألفاظ القديمة وزجه بها في قصائده . كما أنه تمتع بقابلية الوصول للإبداع من خلال نفس شعري طويل وامتلك التعابير اللغوية التي ساعدته من خلال توهج العاطفة لديه .

إن القارىء لشعر النصراوي لا يحتاج إلى تفكير وتعب في إدراك صوره ومعانيه لسهولة أسلوبه ففي قصائده نضج فني ومعانيه واضحة في كافة أغراض الشعر التي كتبها فهو يسير في اتجاه واحد وهو التبسيط اللغوي مع التجديد والابتكار في المعاني قدر المستطاع وبذات الوقت تمسكه وحرصه على التقاليد الشعرية قلبا وقالبا ...

إن أهم ما يميز شعر النصراوي العاطفة المتوهجة في جميع أغراضه الشعرية ففي الاتجاه الوطني تجده لا ينفصل عن شعبه وعصره فيعيش مشكلات الوطن ويحمل همومه، وفي الغزل ستجد حرارة العاطفة مع الزج بصور حسية تعبر عما يدور بخلجاته .. وإذا ما وقفتَ على شعره القومي ستجد تلك الروح العربية القومية الصادقة وهذا دليل على ثقافته العربية ..

فها هو يتساءل في قصيدة (طوفان الأقصى ) ويقول :

أين منْ أفتى وحابى داعشا 

وسقى الأهل من الكأس الأمرْ

أين من يملك مفتاح الهدى

أين من صلى وزكى واعتمرْ

أين من قصّر ثوبا وادعى

أن ثوب العبد أهدى إن قصرْ ....

وله وقفة مع الشام ودمشق في قصيدة رائعة بعنوان( مجد العروبة ) يقول فيها :

وإن وهنتْ دمشق وأن تعافت

فإن سحابَها للعرب رفدُ

فلا مجدٌ بغير الشام يسمو

ولا عربٌ بلا شامٍ تعدُ

فهم سورٌ إذا أرخت عقالا

وان زحفت فاهل الشام سدُّ ...

من المهم أن يكون الشاعر معبرا عن حاجة الإنسان العربي وعن طبيعة المرحلة الراهنة التي تمر بها الشعوب من ارهاصات ومعاناة وويلات وقد نجح النصراوي في تجسيد ذلك شعرا.

اختلفت قصائده التي كتبها في الثمانينيّات في فترة معاناة الغربة والأسر عن القصائد التي كتبها حديثا 

فقد وصف مرتع طفولته بقصيدة يقول فيها :

كم ايقظ الروض صدى آهةٍ

من عاشقٍ ناجاه أو شاعرِ

له يقص العاشقون الهوى

كقصة السامر للسامرِ

والنهر كالصب جرى ناعسا

كما سرت ليلا خطى الحائرِ

كان للرثاء نصيبٌ في قصائده أظهر من خلاله الوجع والألم ومعاني صدق الإحساس والشعور قال: في قصيدة (طيفها يكفيني) وهي رثاء لوالدته الراحلة

فَسموتِ دوحا بالمكارم مورقا 

شَخصت لبعدِ مدارِها الأبصارُ 

إذ كنتِ مِربدَ احرفي وقصائدي

واليوم لا وترٌ ولا أشعارُ

إن غاب عن عيني المزارُ لبعده 

فمقامها بين الضلوع مزارُ

وكان للرسول الأعظم ولآل بيته ص نصيبٌ وافر في أشعاره فقد كتب في الحسين ع والإمام علي ع 

قال : في قصيدة (عذرا أبا الزهراء ) وهي قصيدة للرسول الأعظم ص

فعذرا أبا الزهراء إن شط جامحٌ

وخالط أطيافَ الشريعة باطلُ

وعاثت بها رقطاءُ من غير آلةٍ

وافتى بلا علم سفيهٌ وجاهلُ

وعادوا بها للجاهلية جذعةً 

وجدت على هدم البناء معاولُ ...

وقال:  في ( قصيدة فديتك )من سيف وهي للإمام الحسين ع

بواكٍ ديار الربع فهي مواجدُ

عشية همت بالرحيل الفراقدُ

عشية حفوا بالحسين كأنهم

نجوم السما في قلبهن عطاردُ

فساروا وسار الموت يحدو ركابهم 

كأن المنايا للفحول قلائدُ

استلهم النصراوي قصائده من بعض الأسماء الشعرية المهمة في الساحة الشعرية العربية كما ورد في قصيدته ( من ايحاء الجواهري الكبير )

إذ يقول:

وكيف يلوح في الآفاق فجرٌ

اذا ما حلّ في الانحاء جهلُ

فلا تفزع إذا اختلطت نصالٌ

وغاص بلجة الأعماق نصلُ

وخذ من سيرة الأحرار نبلا

اذا ما شح بين الناس نبلُ

وخذ من سفرهم للشمس دربا

فان سراتها قولٌ وفعلُ

فيعجم عودها جيلٌ ولودٌ

ويسبر غورها ليجدَّ فصلُ

فينسج من بقايا الحلم حلما

ويعلو كالكواكب حيث تعلو

هذه الأبيات محاكاة لقول الجواهري رحمه الله

سينهض من صميم اليأس جيلٌ

مريـدُ البـأسِ جبـارٌ عنيد

يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى

ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد

........

إن عدة العمل عند النصراوي كانت تشتغل على الوعي فهو متمسك ومتأثر بالشعر العربي القديم ولكن بصبغة الحداثة التي تفرض عليه الإيقاع المواكب للعصر وظهر ذلك من خلال التركيز والتكثيف الصوري والدرامي.. وبهذا نستطيع القول أن النصراوي أخرج لنا قصيدة متكاملة المعنى من حيث بنيتها وهو ما أراد الوصول إليه 

كما كان للمكان الشعري الأثر الواضح في بنية قصائده فقصائده في الغربة اختلفت عن قصائده في الحاضر ويحسب له تعامله مع الطبيعة بشكل زيّنَ صورته الشعرية ..

حشّد وزج النصراوي بالكثير من المفردات التي جسدت المعاني والصور وخاصة أفعال الطلب فالافعال لها الدور الكبير في تزين القصيدة وبهذا فهو يحاول أن يكتب قصيدة شاملة من حيث الدلالة والمعنى منطلقا من فضاء واسع لا يقبل الضيق والتقوقع وهذا الفضاء الشعري واجب على كل شاعر أن يدخله ليأتينا بالابداع والابتكار .

القصائد الوطنية التي كتبها توشحت بنظرة التفاؤل وشحذ الهمم كما ورد في قصيدة دارت رحاها وكذلك قصيدة (أنا العراق ) يقول فيها:

أضحى العراق بنوره كمحجةٍ

بيضاء يُعلي صرحها الأحرارُ

ما خانه عزمٌ فزل خيارُه

لكنما فتكت به الأقدارُ 

حسدا تكالب من يظنُّ لغايةٍ

ان العراق قلادةٌ وسوارُ

فتآزر

 ان العراق قلادةٌ وسوارُ

فتآزرت بغيا عليه عصابةٌ

دارت بدين الله حيث يُدارُ

ورد في قصائده الغزلية العفة والعذرية بعيدا عن المجون ( عبير الذكريات )

قد سقتني الحب عذبا 

سلسبيلا وفراتْ 

هام من شوقٍ فؤادي

بالعيون الناعساتْ

فسهام اللحظ أمضى

في القلوب الهائماتْ 

رهنت قلبي شراكٌ

من رموش آسراتْ ....

لأيام الغربة والسجن الأثر الكبير في حياة الشاعر وقد رافقه في أيام غربته الشاعر (يونس عيسى منصور) الذي كتب مادحا النصراوي

بوركت يا شاعر الدنيا وما كتبتْ

أعني ( عليا)  بقايا من عكاظ أبي

أما العماليق من قيسٍ ومن مضرٍ

فقد تلاشوا وما فيهم سواكَ نبي..

والشاعر النصراوي رد عليه بقصيدة بنفس القافية والوزن قال فيها

مثلي يتوق إلى نبعٍ اجاورُه 

دعني اساقي الهوى من نبعكِ العذبِ

ما زلت غضا طري العود مقتصدا

ولم أجارِ فحولَ الشعر أو أهبِ

ولا بلغتُ سماءَ المجد منفردا

إلا وكنتَ قريني في سما الأدبِ 

النصراوي كان رائعا في الرد متواضعا وللغاية محافظا على دقة المعنى ومبتعدا عن الغلو ... فلا يمكن مقارنة الشعراء بالانبياء....

النصراوي كان محافظا على الاتزان مبتعدا عن الضبابية والرمزية متسلحا بالعاطفة الجياشة والتي لا تفارق العقل 

مشتغلا على الأمكنة والأزمنة التي كُتبتْ فيها القصيدة ومرتكزا على عدة مرتكزات أساسية في بناء القصيدة كالصورة الشعرية والحفاظ على وحدة الموضوع ومبتعدا عن التكلف والتصنع فهو يأتينا بما تجود به قريحته ...

وقد كان حاضرا وبقوة مع مايمر به الناس من مجريات وأحداث لذلك تجسدت في اشعاره الروح القومية والوطنية وحتى التأثير الديني كان واضحا عليه وفقا للمكان الذي يعيش فيه ... ولم يتحرر من الزخرفة البيانية البديعة التي سلكها شعراء مدرسة الشعر القديم لذلك تجده قوي التركيب سليم اللغة ، وأهم ميزه تميز بها هو الحفاظ على المزاج الشعري الممزوج بالعقلانية وذلك يحسب له منطقا وقد يُعاب عليه إبداعا فسماء الإبداع لا تظهر إلا من خلال التمرد وهذا لا يعني انه لا يملك هذه الطاقة ولكنه يحجبها لعدة اعتبارات مجتمعية ودينية ...

امتلك النصراوي الجاذبية التي تشد القارئ إليه وهذا أمر عظيم أن ينتظر المتلقي ما يجود به الشاعر .

أبارك للنصراوي منجزه الإبداعي وإلى مزيد من التفوق والتألق .

وحمدا كثيرا لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد الأمين وعلى آله وصحبه الأخيار المنتجبين.




Share To: