وهم النجاح | بقلم الكاتبة السودانية/ تسنيم عبد السيد 


وهم النجاح | بقلم الكاتبة السودانية/ تسنيم عبد السيد
وهم النجاح | بقلم الكاتبة السودانية/ تسنيم عبد السيد



لن تعرف حقيقة نفسك وماذا تريد وما الذي يناسبك، إلا بالتجارب والتغيير، فالبقاء على حال ثابت يُوهمك بأنك لن تقدر ولا تستطيع وأنك محدود أو عاجز، والغريب أنك تستسلم للوهم وتجلس تتأمل العالم حولك يتحرك وأنت مكانك، لا تُخاطر ولا تُغامر خشية العواقب التي قد تنتهي بك إلى حيث تتمنى وتريد! لكن فرط تشاؤمك وانغلاقك تظن أن النهاية دائمًا سوداء، وما أدركت أنك مخلوق على هذه الأرض لتكتشف وتتعلم وتنجح وتخفق، فالسفينة دائمًأ آمنة وهي على الشاطيء، لكن ليس هذا ما صُنعت لأجله، بل لتتحرك وتُبحر وتغامر، وستصل لوجهتها في نهاية المطاف، وإلّا فالرحلة وحدها مدرسة..

إن النوازل والحروب التي تسببت في تهجير كثير من البشر واجبارهم على ترك حيواتهم، والنجاة بأنفسهم نزوحًا لأماكن جديدة بحثًا عن حياة أخرى، كثير من أولئك البشر الذين أُجبروا على التغيير سيكتشفوا بمرور الوقت أن حالهم كان يشبه حال ذلك الصيّاد، الذي كلما اصطاد سمكة كبيرة يرجعها للبحر ويأخذ فقط السمك الصغير، فاندهش لذلك الموقف رجل كان يقف بجانبه على الشاطئ، فسأله لماذا ترمي الأسماك الكبيرة وتأخذ الصغيرة؟! فقال له الصيّاد: "لا شيء، غير أن القِدر الذي أطبخ فيه صغير ولا يحتمل الأسماك الكبيرة، لذلك أرمي السمك الكبير وآخذ ما يتسعه القِدر"، إن ذلك الصيّاد قد ضيّع على نفسه بكل سذاجة فرصًا كانت سانحة قد تقوده لتغيير جذري في حياته، لكنه اختار أن ينظر فقط تحت قدميه، وما درى أن الحياة بقدر الحلم تتسع، وبما أن لكل تغيير ثمن فيبدو أنه لم يكن مستعدًا لدفع ذاك الثمن حتى وإن كان بخسًا، ففي حالة الصيّاد تلك ما كان يلزمه سوى تغيير القِدر فقط، وإن لم يكن يملك ثمن قِدرٍ جديد كان يمكن أن يبيع من أسماكه الكبيرة المُهدرة، ليُحدث أول حركة في بِركة حياته الساكنة، لكنه أبى إلّا أن ينظر تحت قدميه. 


قد تبدو بعض الأحداث الكبيرة في حياتنا التي نضطر معها لتغيير خططنا مزعجة وغير محببة، لكن ذات الحوادث قد تكون سببًا في تحولات جذرية لمسارات الحياة، وتلك الأحداث المفصلية التي في الغالب لا دخل لك بوقوعها يكون تأثيرها مباشرًا عليك، تمامًا مثل الحروب أو الأوبئة أو ما شابه.. وليس بعيدًا عن ذلك فترة كورونا، فكثير من الناس تغيّرت حياتهم واتخذت مسارات أخرى، واكتشفوا عن أنفسهم مهارات لم تُتَح لهم فرصًا للتعرف عليها بوقت آخر، فالحياة أنهكتهم بمشاغلها ومتاعبها، وما تركت لهم فراغًا ليتأملوا ذواتهم الحقيقية لا تلك الأجساد التي تشابه الروبوتات غير أن لها روحًا وتتنفس، لكن حين سكن العالم وتوقفت حركته بفترة الإغلاق القسري تلك، اقتربوا من أنفسهم أكثر ونفضوا الغبار عن عقولهم والقلوب، إن "كورونا" قد قيّدت حركتهم لكنها حرَّكت دواخلهم، فالكثير من المواهب خرجت للعلن ابان تلك الفترة واصدارات متنوعة من الكتب والمؤلفات والأعمال الفنية والاكتشافات العلمية. 


ولم استغرب ذلك الأمر حينما علمت أن أعظم اكتشافات نيوتن كانت في ظروف مشابهة لتلك التي جرت، ويُذكر أنه إبان دراسة إسحق نيوتن في الجامعة، تم تعليق الدراسة وتقييد الحركة بسبب انتشار الطاعون في انجلترا، ووقتها ما كان لذلك الداء دواء، فمات بسببه كثير من الناس لسرعة انتشاره وسهولة انتقال عدوته، فكان الحل الوحيد هو تقييد الحركة لضمان عدم انتقاله لمساحات أخرى من البلاد وحصد مزيد من الأرواح.

في تلك الأثناء غادر كثيرون من المدينة إلى الأرياف، حيث الهواء النقي والأرض الشاسعة، وكان من أولئك النازحون للريف العالم إسحق نيوتن، الذي وصف تلك الفترة التي امتدت لنحو عام ونصف بقوله: "كانت هذه الأيام ذروة عصر اختراعاتي"، فالتفاحة التي سقطت وألهمته اكتشاف الجاذبية كانت بإحدى مزارع ذلك الريف الذي لجأ إليه هربًا من الطاعون.

ومن المؤكد أن التفاح كان يتساقط كل عام من تلك الشجرة، لكن لم يجد نيوتنًا ليتفكر ويتأمل ذلك السقوط، ويتحول عنده ذلك التكرار والعادي لمشهد مُلهم قاده للتوصل لواحد من أعظم اكتشافات البشرية.


كل ذلك الحديث قد يقودنا للتفكير في السؤال الوجودي هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟! الحقيقة أنه الإثنين، فهو مُسيَّر في وقوع الحدث لكنه مُخيَّر في التفاعل معه، وما يترتب عليه من قرارات، لذلك تجد أن تفاعل الناس مثلًا مع النوازل المأساوية في حياتهم يختلف، فبعضهم يقوى وآخر يضعف وثانٍ يركن وثالث يتجاوز، لذا فإن ردود الفعل على حدث واحد تتباين بحسب قوة الفرد وقدرته وتجاربه، وهذا ما يصنع الفرق بين أفراد المجتمع، فالخيار لك إما أن تكون ذلك الصيّاد المهزوم أو تحيا كما تحب ولا تقبل أن تكون آلة وداخلك ينبض بالحياة، فالبشر بحاجة لمزيد من "نيوتن" ليكشف لنا خفايا أخرى في هذا العالم الغامض والمثير، وعلينا أن نجتهد جميعًا كلٌ في مجاله وبما يملك من قدرات لنجعل هذا العالم مكانًا أفضل مما كان.




Share To: