الزّمن.. ووهم الذّاكرة | بقلم الشاعرة والكاتبة السورية / فاطمة يوسف حسين


الزّمن.. ووهم الذّاكرة | بقلم الشاعرة والكاتبة السورية / فاطمة يوسف حسين

الزّمن.. ووهم الذّاكرة | بقلم الشاعرة والكاتبة السورية / فاطمة يوسف حسين

 

كان هناك بالقرب من دارنا مسجد صغير، وإلى جانبه تقبع شجرة زيتون عتيقة، ولافتة كتب فيها: إلى مَن لا يملكون مأوى.. هُنا مأواكم! 

كانت الأزقة تفيض دفئاً، ترى الصّبية يتسامرون، والنّجمات تتهامسن، تُرى مَن يفضّل القمر منهن؟ كانت العمة فضيلة تجلس وبيدها سيجارتها الشّهيرة الملفوفة بإتقان، وتحدّثنا عن أيام العزوبية، وكنا نسألها عن معنى اسمها، فتجيب: الحُبّ هو الفضيلة، والفضيلة هي الحُبّ، ونحن بحاجتها لنحيا!

وفي الزّقاق القديم، خلف دكان الجدة حليمة، كان يلقي العمّ محمد قصيدته التي كتبها بعد عناء كبير، مشيراً إلى تعاسة مَن يحبّون. وكانت العمة فضيلة تناقشه، ولتثير غضبه تنعته، فتذكّره أنّه موظّف صغير في إحدى دوائر الدولة، وأنّ ذلك لا يمكّنه من شراء قطعة جبنة إلا بالدَّين، فتسخر منه مرددة: تكتب قصائد، وتنعت الحُبّ.. وأنت موظّف حكوميّ! 

فينشأ حوار ساخر من وحي البساطة، بليغ العمق، لا ينساه حاضروه. 


كان هناك نبع لا تكفّ ماؤه عن العطاء، كانت نساء القريّة تذهبن لقضاء معظم أوقاتهن هناك، يغسلن الأواني والملابس، يحملن جرّات الماء فوق رؤوسهن، مرتدين العباءات. كانت أحاديثهن تدور حول رقيّة، الفتاة التي لم يمنعها والدها من إتمام دراستها؛ بل دعمها في ذلك. فيتحدثن عنها كما لو أنّها معجزة. هنّ لم يدخلن المدرسة، ولم يعرفن كيفية الكتابة والقراءة؛ لذا توجهن لرقية، لتكون مدرستهن، وبالفعل نجحت في ذلك آنذاك. كان هناك ولد شقيّ اسمه مصطفى، كلّما أرادت أمّه ومَن معها من النّساء أن يشربن من ماء النبع وطالبنه بتعبئة إناء صغير صنعته أيدي الفخار، راح يتبول بالإناء ويخلطه بماء النبع. ظلّ يفعل هذا إلى أن اكتشفت إحداهن الأمر فتوقّف عن ذلك بعد أن نالت العصا من جلده. يقال إنّ والدته حين عرفت بالأمر ظلّت تستفرغ لأسبوع كامل، وظلّ مَن سمع الحكاية ينعت ويضحك! 


كانت هنا دالية، تحت ظلّها يبيع الشّاب حسن أقمشة ملوّنة، فتلتم النسوة حوله، كان حسن لشدّة جماله حلم فتيات القرية، وكان حلمه الوحيد فخرية التي لم تهتم لخطوط يده يوماً. فسافرت إلى المغرب وتزوّجت وأنجبت ولداً أسمته "بحر" على اسم جارها الذي كانت تلتقيه سرّا خلف جدار القرية الكبير، وظلّ هو هنا يشتاقها ويتمناها. 


في منتصف الليل، كان يعبر رجل طيّب سكيّر الأزقة، وكثيراً ما يدندن: "ده القلب يحب مرة ما يحبش مرتين.."

وكان الرّجال يقصدون مقهى "المحبّة" ويستمعون لقصص الحكواتي الذي كان آنذاك يروي ما رواه غيره بأسلوب ضليع، فيتقمص دور غيره، وتدور هناك أحاديث السّياسة والاقتصاد والحرب وكلّ ما يخطر على بال إنسان. كان يأتي أبي من المقهى غاضباً وحين نسأله السبب، يجيبنا: الملعون.. يشتم الله والدّين! وكنا نفهم آنذاك مَن المقصود. فنحضّر له العشاء ونهديه أختي وأنا القبلات حتى يبتسم، فتُفك عقدة حاجبيه.  


كان الأخ جورج يهرب إلى المدينة باستمرار طمعاً بحضور مسرحية، وكان حين يعود، يحدثنا عمّا شاهد، فنتمنى أن نقصد المدينة لشيئين: لنحلم، ونحضر مسرحية!


كان الإنسان مُحِبّاً، لا يخشى على نفسه من طيبة القلب؛ بل يخاف من ضياعها. وكانت الحياة ريفية بسيطة وهادئة.


كان وكان.. لم يبق شيء مما كان إلا الزّمن الحاضر في الذّاكرة!




Share To: