همسة عتاب | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
همسة عتاب | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة |
هل سمعت يوما أن الإنسان يعق يومه؟ سمعنا عن عقوق الوالدين ولكن كيف يعق المرء يومه؟
قيل لأحد الحكماء: بم كنت أعلم قرنائك ؟ فأجاب: ( لأنني أنفقت في زيت المصباح لدرس الكتب مثل ما أنفقوا في شرب الخمر). العلم ينتشل العبد المملوك، ويجلسه مجالس الملوك، ويرتفع بالمنقوص إلى أهل الخصوص، به يتعظ الغافلون، وفيه يتنافس المتنافسون، الخشية من ثمراته، والرفعة من بركاته، { إنما يخشى الله من عباده العلماء }، { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }، وحسبك أن أهله ورثة النبي المختار. فالعلم بضاعة الدنيا والآخرة، ولئن كسدت في هذا الزمان فلها يوم تروج فيه، والتاجر الناجح من يكثر الشراء ساعة الكساد، فإذا نفقت البضاعة عظم ربحه وزاد.
لكن نأسف جميعاُ على جيل نعول عليه، وندفع لواء التغيير إليه. وهو يجهل أركان الوضوء، أو شروط الصلاة، ولم يسمع عن كتاب سيبويه، أو فلسفة ابن رشد، وزاد ابن القيم، يجهل تاريخه. فشبابنا إن زهدوا في هذه الكنوز الثمينة، ونفضوا أيديهم من هذه المعاقل الأمينة، فهذا إيذان بمفسدة وخيمة، وعاقبة أليمة، لأن من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه.
يجب أن نأخذ في الاعتبار عند تربية الجيل الجديد ما نمر به من نزعة الانفتاح الفكري: فلم تعد هناك حدود لدى الشباب، إذ أصبح يقرأ كل شيء، ويؤمن بأي شيء، ويحتقر أي اتجاهات. ومع كونه فى مرحلة بدائية في الثقافة، إلا أنه سرعان ما يتبنى بعض الاتجاهات المعاصرة: فهذا جذبته كتابات الوجوديين الملحدين، وذاك استهوته الماركسية بسبب صراخها ضد الظلم الاجتماعي، وينسى كل منهما أن الارتكاز على صخرة الحق الكامل، يعطينا نورًا كافيًا للتمييز، ولقبول ما هو حق، ورفض ما هو باطل. من هنا تختلف أساليب مخاطبة الشباب.
يجب أن يعلم شبابنا فضل العلماء ويحتذوا بهم ، لأن العلماء هم من نبذوا الوسادة، فنالوا السيادة، علموا أنه بقدر العنا تُنال المُنى، فالكبار هم أهل العناء والكلف، والصغار طلاب سرف وترف. ويحكى أن أحد طلاب العلم وقف على باب عالم فقال : ( تصدقوا علينا بما لا يتعب ضرساً، ولا يسقم نفساً . ( فأخرجوا له طعاماً ونفقة، فقال: ( فاقتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم، إني طالب هدى، لا سائل ندى )، فلما نال مراده خرج جذلاً فرحا يقول: ( علم أوضح لبساً، خير من مالٍ أغنى نفساً ).
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا شابا، ثم تلا هذه الآية:(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) وقد أخبر الله تعالى عن يحيى بن زكريا الذي أتاه الله الحكمة قال تعالى: (وآتيناه الحكـم صـبيا) وقال تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)وقال جل شأنه: ( إنهم فتية آمنوا بربهم) وقال جل من قائل: (وإذ قال موسى لفتاه).
إنها لغصة نشعر بمرارتها في حلوقنا ونحن نرى الشاب المسلم يندفع لخدمة دينه بعاطفة جياشة، وهمة وثابة، ولكنه مصاب بقحط ثقافي، وقد غشيته سحابة من الجهل المركب، لو قرأ آية من كتاب الله لوليت منه فراراً، وملئت حسرة وانكساراً، تناديه من قريب: أن هلم إلى محاضرة التربية، فيعرض وينأى بجانبه، وينفي عن نفسه النقصان، تهمس في أذنه بالعتاب، وتلين له الخطاب، وترشده لصحبة الكتاب، فيصم أذنيه إدباراً، ويثني عطفه استكباراً، تأخذ بيده ليرتع في رياض العلم، وينهل من معين الذكر، ويتنسم نفحات الإيمان، ويصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتراه ينظر إلى مجالس العلم من طرف خفي، وتذهب كلماتك ونصائحك أدراج الرياح، كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً. وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جميع الأنصار وكبار المهاجرين على حداثة سنه، وعتاب بن أسيد ولاه مكة وبها أكابر قريش.
فأمتنا يحدوها الأمل أن تراكم في العلم متنافسين، وإلى مجالسه سباقين.ونهضة الأمة بحاجة إلى علو همة، وكل واحد منا عند نفسه من الغفلة ما يكفيها، فتيقظوا ، واعتبروا يا أولي الألباب. لذلك آثر النبي-صلى الله عليه وسلم- مجلسه على مجلس الذكر وقال: " كلا المجلسين خير، وأحدهما أحب إلي من صاحبه، أما هؤلاء فيذكرون الله تعالى ويسألونه،فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما المجلس الآخر فيتعلمون الفقه، ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلماً، وجلس إلى أهل الفقه "
وختاما يقول لقمان لابنه: يا بني ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان خليلا صالحا. فإنما مثل الخليل كمثل النخلة, إن قعدت في ظلها أظلتك. وإن أحبطت من حطبها نفعك, وإن أكلت من ثمرها وجدته طيبا. يا بني لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها وما خلق الله خلقا أهون عليه منها فإنه يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين ولا بلاءها عقوبة للعاصين. يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمش في غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك يا بني لا تضع مالك وتصلح مال غيرك. فإن مالك ما قدمت، ومال غيرك ما تركت,. يا بني إنه من يرحم يٌرحم. ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الباطل يأتم. ومن لا يملك لسانه يندم, يا بني زاحم العلماء بركبتك. وأنصت إليهم بأذنك، فإن القلب يحيا بنور العلماء، كما يحيى الأرض الميتة بمطر السماء.
Post A Comment: