الرحيل المؤلم | بقلم خلود أيمن / كاتبة وأديبة مصرية


الرحيل المؤلم | بقلم خلود أيمن / كاتبة وأديبة مصرية
الرحيل المؤلم | بقلم خلود أيمن / كاتبة وأديبة مصرية 

 


السلام عليكم ، 

الرحيل المؤلم :

لم يتمالك نفسه فور سماع هذا الخبر المُفجِع ، خرَّ ساقطاً أرضاً من هَول الصدمة التي أصابته ، لم يَعُد بوسعه التحمُّل فقد انهالت عليه الكوارث الواحدة تلو الأخرى حتى كاد يفقد الوعي أو يُجَن ، لقد حاول البقاء صامداً من أجل الحفاظ على مَنْ حوله ولكنه جزع ، عجز عن إرغام ذاته على تحمل المزيد ، حاول أنْ يقاوم الواقع ولكنه فشل فشلاً زريعاً تلك المرة فقد كان الراحل أبيه وأعز ما يملُك ، فَقَد أقرب شخص لديه ، كان يُحقِّق له رغباته ، يهتم بشأنه ، يفخر بنجاحاته ، يؤيِّده في قراراته ، يدعَمه في كل خطواته ، يصفِّق له عقب تحقيق أي إنجاز ، فلم يكن الأمر هيناً لديه هذا الفراق المفاجئ الذي اهترأ القلب على إثره ، فقد اخترق الحزن قلبه ومزَّقه ، فتَّت آخر بقايا الأمل التي عاش عليها لسنوات ، فقد كان والده شحنة الطاقة التي تدفعه للأمام وها قد غادر الحياة ورحل هو الآخر بعدما فارقه الجميع من قَبْل ، لم يتبقَ من عائلته شخصٌ قط ، لم يبقَ معه سوى وَلداه الذي لا يعرف كيف سيصمد معهما ليتمكَّنا من استكمال الحياة وقد فقَد رغبته فيها للتو ولم يَعُد يملك الطاقة الكافية للاستمرار ولو لخُطوة واحدة بعد هذا اليوم الأليم الذي فَقَد فيه أبيه ، لقد حاول مِراراً وتكراراً تجاهل الأمر والعيش من أجل أبنائه ولكنه كان يفشل ويتعثر في ذلك ، في إيجاد هذا الأمل الذي يجعله راغباً في الحياة من بَعْد ، كان يتحامل على نفسه كثيراً محاولاً النسيان أو التناسي من أجل الأبناء ولكنه لم يتمكن من ذلك لفترة طويلة ولكن شيئاً فشيئاً منحه الله الصبر وأنزَل عليه السَلوى والسكينة وطيَّب جراحه حتى لا يفقد هذين الصغيرين اللذين ليس لهما أي ذنب فيما حدث فهو سنة الحياة التي لن يُخلِّد فيها أحد ، فكُلنا إلى زوال مهما طالت بنا الأيام وامتد بنا العمر ، كان عليه أنْ يعلم أن لأبنائه عليه حقاً ولا بد أنْ يستفيق من أجل رسم حياتهما ومستقبلهما قبل أنْ يضيعا بلا رجعة بفِعل الحزن الذي استشرى في جسده وفي كل ركن من أركان بيته ، فكل المشاعر تَخفُت بالتدريج إلى أنْ يختفي أثرها تماماً فكان عليه أنْ يعتاد الأمر رويداً رويداً حتى يتمكن من مزاولة حياته ببعض من الرحمة والقوة مع ابنيه اللذين ما زالا في حاجة إليه وبخاصة مع صِغر عمرهما فلن يتحمَّلا الإهمال أو الانصراف عنهما بأي شكل كان ولو لمدة قصيرة ، لذا كان لديه مهام أخرى يتحتم عليه الالتفات إليها ، فمصالح الأبناء هي أحد أهم أولوياته وشغله الشاغل لتلك الفترة القادمة ولا بد أنْ يُولِّيهم مزيداً من الحب والاهتمام والاكتراث حتى لا يُعاقَب عقاباً عسيراً ، فهما تأشيرة السعادة التي تجلو أحزان القلب بلا رجعة إنْ رأى منهما ما تمنَّى أو حقَّق أيهما أي إنجاز يُبشِّر بقدوم الخير أو انبثاق الأمل مرة أخرى من بين ثنايا الأيام المؤلمة العسيرة التي مرَّت لتوِّها وما لبث الخلاص من تبعاتها بصعوبة بالغة ، فقد عوَّضه ابناه بالفِعل عن كل هذا البؤس واليأس الذي عاشه أياماً طوال والدموع التي ملأت خديه بلا توقف أو انقطاع لليال طويلة لا تُنسَى آلامها ، فقد كان عوض الله له عظيماً في تلك النبتة التي وهبه إياها من صُلبِه فقد أنسوه مرارة ما حدث ولو بالقدر البسيط حتى بدأ يشعر بقطرات الغيث تُحلِّي أيامه من جديد وكأن الدنيا قد ابتسمت له بعدما كشَّرت عن أنيابها لفترات متتالية لم ينسَها أبداً ولكنه سلَّم أمره لله فأرسل إليه العِوَض على الفور دون تأخير أو تقديم أو نقصان وهذا وعد الله للعباد فلا تسير دنياهم على وتيرة واحدة للأبد ولا بد من بعض محطات الألم حتى يستشعروا مذاق السعادة حينما تأتيهم راكضة وكأنها جاثيةٌ على ركبتيها طالبة التمتُّع بها والرضوخ لها والتنعم بلذتها التي افتقدها أياماً طوال ، وها قد استعاد نشاطه ورونقه من جديد وتجرَّع بعض حبات الأمل التي شحنت جسده بمزيد من الحيوية والقدرة على استكمال الطريق وكأنه استنشق هواءً نقياً بعد فترة ركود وخمول لم يعرف كم استمرت ولكنها انقَضت برحمة الله وكرمه الذي أغدقه وغمَره ودونه لصارت الحياة حالكة لفترة لا نهاية لها فيكاد يشعر بجمالها لآخر نفس يلفَظه ولولا عون الله ومدده لاستحالت حياته لأيام ثِقال تَمُر في بطء وشقاء راغباً في الخلاص منها في أسرع وقت ممكن ، فكان يشكُر الله كثيراً ويحمده على نِعَمه التي مكَّنته من الوقوف على قدميه من جديد من أجل مستقبل أبنائه المشرق بمشيئة الله وعونه ، فقد أمدَّه بالقوة اللازمة لذلك وزرع بداخله أطناناً من الصبر والجَلد لتجاوز تلك المِحن التي نزلت به والعبور من تلك الفترة الصعبة بلا جزع أو فقدان للأمل فدونه تصبح الحياة خاوية قفر لا تُطاق أو يُحتَمل العيش فيها للحظة واحدة ، فسبحان مَنْ مكَّنه من القيام بتلك المهمة المستعصية التي لولا إيمانه وقلبه المُوحِّد لفَقد رغبته فيها وانصرف عنها كغيره من الضعفاء ولكنه لم يستسلم أبداً لشعور الحزن القاتل الذي كاد يقضي عليه في الأمس القريب لولا تمسُّكه بخيط الإيمان واليقين في قدرة الله على مدِّه بما يُمكِّنه من استئناف المسير من بَعْد تلك المحطات المؤلمة ...

Share To: