حوار مع ملك الموت | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة 


حوار مع ملك الموت | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
حوار مع ملك الموت | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة 




إذا رأيتم أديب يهرول... وثمانية وعشرون حرف وراءه فلا توقفوه

إذا رأيتموه هائم بين السطور فلا 

تتبعوه. ففي رحم قلبه جنين نص يتخبط، يوشك أن يولد لمتابعوه.


فنحن الموتى، الناجون من المعركة،

الخارجون من التوابيت، نتساءل:

كم قبر يكفي، ليواري تلك الأشلاء؟

كم شمعة تكفي، لإزاحة هذا الظلام؟

كم فرح يكفي، لنسف هذا الحزن؟

كم موت يلزمكم كي تلحظونا؟

كم عُمراً يلزمنا لننسى ما عشناه


هنا نقف احتراما لميلاد أخر... هو الجد الأكبر للحزن، الرعب، الكارثة، الخسارة، اليأس، الوحدة، الخوف، الوحشة.. كلها نفحة من الموت وفوحةٌ من مفهوم الحقيقة الأبدية. هو الزائر الذى لا يمهلك الوقت لتعبر عن حب، وتعتذر عن خطأ، وتحتضن أمّا هي في أمسّ الحاجة لعطفك حين عجزها، لتحاكي أباً طالما رمقك بعين دامعة شوقا لحديثك وقت وحشته، لتُقبّل زوجتك شكرا وعرفانا وتمنحها فرصة البوح، لتحضرٓ زفاف ابنتك التي حاولت مراراً الإفصاح عمّا في قلبها لك، لابنك التائه بحثاً عن ملاذك، ترجوه أن ينتظر حضور إخوة الدم والروح والرحم.. أولئك الذين لم تلقهم منذ عدة سنوات.. خصومةً وجفاءا !! وياللأسف… الموت لاينتظر. فهو خلاص الروح من ظلمة وسجن الجسد. هو الخلاص من ضنك العيش والم اختبار الحياة.


روي في المناقب عن الصحابي الجليل ابن عباس (رض): إنه أغمي على النبي صلى الله عليه وآله في مرضه، فدق بابه، فقالت فاطمة عليها السلام: من ذا ؟ قال: أنا رجل غريب أتيت أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله أتأذنون لي في الدخول عليه ؟ فأجابت: إمض رحمك الله [ لحاجتك ]، فرسول الله عنك مشغول . فمضى ثم رجع، فدق الباب، وقال: غريب يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله أتأذنون للغرباء ؟ فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله من غشيته وقال: يا فاطمة أتدرين من هذا ؟ قالت: لا يا رسول الله، قال: هذا مفرق الجماعات، ومنغص اللذات، هذا ملك الموت، ما استأذن والله على أحد قبلي، ولا يستأذن على أحد بعدي، استأذن علي لكرامتي على الله ائذني له، فقالت: ادخل رحمك الله . فدخل كريح هفافة وقال: السلام على أهل بيت رسول الله.


وقال الطبرسي وغيره ما ملخصه : إن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال لملك الموت: إمض لما امرت له، فقال جبرائيل: يا محمد هذا آخر نزولي الى الدنيا إنما كنت أنت حاجتي منها، فقال له : يا حبيبي جبرائيل إدن مني، فدنا منه . فكان جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وملك الموت قابض لروحه المقدسة.


فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله، جاء الخضر عليه السلام فوقف على باب البيت وفيه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله قد سجي بثوب، فقال: ( السلام عليكم يا أهل البيت (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون اجوركم يوم القيامة) إن في الله خلفا من كل هالك، وعزاءا من كل مصيبة، ودركا من كل ما فات، فتوكلوا عليه، وثقوا به واستغفر الله لي ولكم ) . وأهل البيت يسمعون كلامه ولا يرونه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هذا أخي الخضر جاء يعزيكم بنبيكم.


وكانت السيدة فاطمة تنادي وتندب أباها قائلة:

وا أبتاه! واصفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه! وا ربيع الأرامل واليتامى!

مَن للقبلة والمصلّى؟ ومَن لابنتك الوالهة الثكلى؟ رُفعت قوتي، وخانني جَلَدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي. يا أبتاه بقيت وحيدة، وحيرانة فريدة. فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغَّص عيشي، وتكدَّر دهري.


فما أجد - يا أبتاه - بعدك أنيساً لوحشتي، ولا راداً لدمعتي، ولا معيناً لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل. انقلبت - بعدك - يا أبتاه الأسباب. وتغلَّقت دوني الأبواب. فأما الدنيا بعدك قالية، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية.


لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك.

يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة.

يا أبتاه! لا زلت آسفة عليك إلى التلاق. يا ابتاه! زال غمضي منذ حقَّ الفراق. يا أبتاه! مَن للأرامل والمساكين؟ ومَن للأمة إلى يوم الدين؟ يا أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين! يا أبتاه! أصبحت الناس عنا معرضين! ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين!

فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟ وأي حزن بعدك لا يتصل؟ وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل؟ وأنت ربيع الدين، ونور النبيين. فكيف بالجبال لا تمور؟ وللبحار بعدك لا تغور؟ والأرض كيف لم تتزلزل؟ رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل. ولم تكن الرزية بالقليل. وطُرِقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.


وقد ذكر ابن القيم في كتاب الروح : أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفان فهم إما من الجنة وإما من النار، ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر، وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تاره بلفظه وتارة بإشارته وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة، وقد سمع بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه.


يقول أحد المشايخ أن ملك الموت عندما يأتي لقبض روح شخص يتشكل له بصورة جميلة، أو بصورة صديق يحبه ذلك الشخص إن كان الشخص مؤمناً، وإن كان كافراً فإنه يتشكل بصورة مخيفة أو وحش أو ثعبان أقرع وغيره. 


وعن لقاء موسى عليه السلام لملك الموت فإن الله تعالى لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختباراً، وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدمياً دخل داره بدون إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشرع فقأ عين الناظر في دار المسلم بغير إذن.


وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه.


ولما دخل ملك الموت على سليمان بن داود ـ عليهما السلام ) فجعل ينظر الى رجل من جلسائه يديم النظر اليه فلما خرج قال الرجل لسليمان عليه السلام: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر الي كأنه يريدني، قال: فماذا تريد؟ قال: أريد أن تخلصني منه فتأمر الريح حتى يحملني الى اقصى الهند، فأمر سليمان عليه السلام الريح ففعل الريح ذلك، ثم قال سليمان عليه السلام لملك الموت بعد ان اتاه ثانية: رأيتك تديم النظر الى واحد من جلسائي، قال: نعم كانت أتعجب منه لأني كنت أمرت ان اقبض روحه بأقصى الهند في ساعة قريبة وكان عندك فتعجبت من ذلك


وحين يسأل الله ملك الموت من بقي يا ملك الموت؟ وهوأعلم فيقول مولاي وسيدي أنت أعلم بمن بقي بقي عبدك الضعيف ملك الموت فيقول الجبار عز وجل : وعزتي وجلالي لأذيقنك ما أذقت عبادي انطلق بين الجنة والنار ومت فينطلق بين الجنة والنار فيصيح صيحة لولا أن الله تبارك وتعالى أمات الخلائق لماتوا عن آخرهم من شدة صيحته فيموت‎.


ويحكى ملك الموت عن المرة التى ضحك فيها والمرة التى بكى فيها فيقول: كنت استعد لاقبض رجل وجدته يقول لصانع احذيه اتقن صنع الحذاء ليكفى من اللبس سنة . فضحكت وقبضته قبل ان يلبسه . فقال له الله: وما ابكاك ؟ فقال : بكيت عندما امرتنى ان اقبض روح امرأه وذهبت اليها وهى فى صحراء جرداء وكانت تضع مولودها


كل شيء يموت، حتى الموت.. سيُذبح ما بين الجنة والنّـــار، سيُأتى به على هيئة كبش أملح ويذبح. كم من موت نعانيه قبل موتتنا الكبرى! تموت القلوب حين تغدرُ وتخون، تموت الإنسانية عندما تكره وتقسو، يموت الحب عند اللامبالاة وساعة الكذب، وتموت الأخلاق بموت النخوة والمروءة، تموت الشعوب جهلا وتخلفا.. تموت بانسداد الأفق ، ويموت الدين حينما يكون نفاقا ورياءا، يموت الأمل ساعة الخيبة، نموت نحن ألف مرة ومرة قبل أوان الرحيل… وبموت من نحب نموت.


عندما تفارق النفس الجسد يصبح اسمها "روحاً" بعدما كانت نفساً، تتنفس حبا وأملا وشوقا.. تتنفس تعبا وضنكا وضيقا… اليوم هي تتنفس راحة لم تنشدها يوما.


لكن لماذا لا يكون الموت جميلا..؟ ولماذا لا نستشعر لذة هذه المتعة، متعة النهاية.. حيث نشوة بداية أخرى لم تتلوث بعد بأخطائنا، فى رحلة جديدة لمكان لم تزره من قبل وسط أناس أخرين.


"هل سافرت يوماً إلى مكان بعيد وأنت في شوق شديد، أو حنين قوي إليه..هل عدت من غربتك يوماً إلى وطن الطفولة والأحباب... هل وجدت قلبك يدق فرحاً وغبطة ؟.. تلك هي جمالية الموت.. حيث انسياب الروح في مملكة السلام، و انطلاق الشوق إلى الرب السلام.." جماليةٌ لك أن تتخيلها.


الروح لا تفنى؛ هي كالجنة والنار.. لا نعلم مستقرها أو مآلها، لا علم لنا بماهيتها أو تركيبتها، فقط يبقى صيتها وأثرها


الموت جميل للمتعبين الذين شاقوا الحياة وقاسوا مرارتها، للفقراء الذين عايشوا كدر الحاجة وضنك الفاقة.. للمحبين الذين طعنتهم الخيانة، هو رحمة للمرضى والعجائز.. هو رحمة بالخلق حين موت الظالمين.


الموت هو مرادف الحياة، والحياة هي الوجه الآخر للموت.. بموتنا نحيا، ، نرحل لمقابلة الرحمن، نشكو إليه ظلما وخذلانا.. نحكي له أوجاعا وآلاما، نرجوه مرحمة وإحسانا .. نرفع له دعوانا في حق الظالمين والمجرمين والقاتلين والغاصبين.. ونلتمس عنده انتقاما.


حكمة الموت بالغة، حكمة تبعث على الطمأنينة، هو يقتلنا كل يوم.. يستأصل من أنفاسنا عمرا فندنو منه أكثر، يأخذ من نحب فيقتل فينا شعورا لا يحيا..يجتث كل شيء قبل أن نسلمه أراوحنا طواعية…ثقةً فيه، واحتراماً لموعد لا يخلف.


ختاما، ففي نهاية مضمار الحياة نتوج بالموت، كجائزة تعب، وذكرى مرور..لقد ابتدع الإنسان صورة مرعبة للموت، لكنه ملاك رائع. لماذا يخشونه؟ أنه ضوء لامع، لكنهم يربطون بينه وبين الظلام. هو ملاك البشارة بالرحمة، لكنهم يستقبلونه بالعويل والصراخ، رغم أنه ليس رسول الحداد والنواح. أيها الموت.. أنت تستحق الثناء.. أنت دائم الأثر .




Share To: