قراءة تحليلية للمجموعة الشعرية الكاملة لعماد صلال عبد الدعمي | بقلم مدمنة الكتب د. إكرام عيد / مصر 


قراءة تحليلية للمجموعة الشعرية الكاملة لعماد صلال عبد الدعمي | بقلم مدمنة الكتب د. إكرام عيد / مصر


في ليلة هادئة، وبين رفوف مكتبى الغارقة في دفء الحروف، بدأتُ قراءة  المجموعة الشعرية الكاملة لعماد صلال عبد الدعمي. كان العنوان بمثابة وعدٍ مكتمل، يختصر رحلة شاعر أراد أن يُنصت له الزمن. أما الإهداء، فقد كان أشبه بمفتاح خفي، يفتح باب عالمه الداخلي، حيث امتزج التقدير للعلم والجمال والإنسانية مع الإيمان العميق بالكلمة كجوهر خالد.

رحلة بين موضوعات الديوان

بدأت رحلتي بين قصائد الديوان وكأنني أتصفح دفاتر روحه.

كان الحزن المحور الأبرز، يظهر في كل صفحة وكأنه قيدٌ يحاول الفكاك منه، لكنه يتحول إلى صديق يُلازمه في رحلة الوجود. 

في قصيدة "منافي الروح"، شعرتُ بثقل الاغتراب وكأنني أسير في طرقات لا نهاية لها. 

خفاقةٌ هي روحي ليتها تقفُ

فعمرها برحابِ الآه تعتكفُ 

تمشي وتحملُ همًا لا يفارقُها 

تصحو على أسفٍ لو ينفع الأسفُ 

إنّي أداري وما أصواتُ قافيتي 

إلا أقاصيص عشاقٍ لهم شرفُ 

بأيّ عرفٍ وقانون ومحكمةٍ 

تُقارَنُ الوردةُ الحمراء والجيفُ 

أما قصيدة "إلى أمي الراحلة"، فقد كانت أشبه برسالة مكتوبة بالدمع، تحمل في طياتها حنينًا وألمًا يأبى الزوال.

يقول في رثاء مرير لوالدته : 

الفَقْـدُ أوجَعنــــي والكبتُ والقهرُ

عامـانِ مرّا ودمــعُ العينِ مُنهمرُ

مُذ غابَ وجهُكِ عني بتُّ مفتقدا

بـــدرًا يُنيرُ دروبًــا حفّهـا الخطرُ

يُسراكِ مــــن ألــمٍ للآن ينهشُني

فكيفَ بــي وأنـا والليــلُ والسهرُ

وكيفَ بـي وديــارُ الأمسِ زاهيةٌ

والآنَ اجْــدَبَ مــــا فيها فلا خَبرُ

يــــا رحمةً كنتُ ألقاهــا كبسملةٍ

أتلــو بها آيــــــةً والذنـبُ يُغتـفرُ

أنعاكِ مـا دارت الأفلاكُ والشُهبُ

وارقبُ الوجهَ فــي طيفٍ وانتظرُ

ألملمُ الجرحَ فــي قلبـي واحبسهُ

وارتدي الصبرَعنوانا وما شَعروا

واحبسُ الهمَ فـي صدري واكتمهُ

وأكتبُ الحــرفَ والنـيرانُ تستعرُ

مـــازالَ وجهُكِ نورًا يبعثُ الأملا

فأينَ منّـــــي ليــــالٍ عمَّها السّمرُ

وأينَ منّــي دعــاءٌ كـان يَحرسُني

ولمسةٌ مـــــــن يـدٍ اغتـالها القدرُ

مُشتتٌ دونَ مــــرآةٍ تُعاكسُنـــــي 

وبعـدكِ القلــبُ مهمــومٌ ومُنكـسرُ

فكيفَ أنسـاكِ يــا نبضًا بأوردتـي

وأنتِ نزفٌ علــــى جرحٍ لـــه أثرُ

ولكن الحزن في هذه المجموعة ليس ضعفًا، بل هو جسر يصل بين الذات الفردية والهموم الجماعية بين وجع الإنسان وآلام الوطن.

وحين وصلتُ إلى قصيدة "سل بئر يوسف"، شعرتُ كما لو أنني أشهد صراعًا خفيًا بين الزمن والفقد حيث كانت الكلمات تقطر بصراع وجودي يجمع بين الماضي والحاضر.

مــــــا سرُّ قـافيتــي كالجمـرِ تتّقـدُ

وتشتكـــي وجـعًا والعـزفُ مُنفـردُ

لا ذنــبَ للشعرِ  فالإحساسُ منبعهُ

والقارئـونَ أحاسيــسٌ إذا شَهِـدوا 

أم أنّهــــم دونَ مـــرآةٍ تُعـــاكسُهُمْ

كـي يفهمـوا شاعرًا في قلبِه الرّمدُ

اقــرأ وَفَسّـــرْ لمــاذا قــالَ مُنْـزِلُها 

(ما ضلَّ صاحبُكم) حتى يعي الوَغِدُ

مالٌ تَحَكَّـمَ بالأوغــــــــــادِ يأمـرُهُمْ

اللاتَ والعجلَ والأحجـارَ قد عَبدوا

كيفَ اصطباري وما عندي مُقاومةٌ

وهــــل لمعجزةٍ يأتــــــي بها الجَلِدُ

روحـــي تُلاحقُ أشباحًا وقد عَلِمتْ

أنّ الحقيـقـةَ روحٌ عـافَـــها الجـسدُ

سَلْ بئرَ يوسفَ عـــن غدرٍ وواقعةٍ

وعن عهودٍ وميثاقٍ ومـــــا وَعدوا

عـــن الأمــانةِ والإيمانِ عن شرفٍ

وعــن حكايــــــةِ مغدورٍ وما فقدوا

باعـــوا ضمائرَهُمْ والذّنبُ حجتُـهُمْ

ثم استفاقوا علـــــى يومٍ به سَجدوا

لو كـــانَ موســى بلا عَزمٍ ولا مَـددٍ

لصـــارَ فرعـــــونُ ربًــا طالمــا يَلِدُ

مــــا البحرُ إلا أقــاصيصٌ نُترجمُها

كــي ترعـوي أمـمٌ قــد غـرّها العددُ

ومــــــا سفينــةُ نُــوحٍ غـيرَ أحجيةٍ

للمارقيــنَ إذا مـــــــا نــــالَهُمْ رُشُـدُ

مَعنــــىً أوثقُــــهُ والشعـرُ يشهدُنـي 

البناء الفني: مزج الأصالة بالتجديد

ما أثار إعجابي هو البناء الفني للمجموعة. 

لم يكن الدعمي شاعرًا أسيرًا للتقاليد، لكنه أيضًا لم يفرّط في جذورها. 

كان يمزج بين البحور الشعرية الكلاسيكية وبين إيقاعات حديثة، ليخلق تناغمًا مدهشًا. 

في قصائد مثل "يلوم العذول" و*"ضيعت مفتاح قلبي"* 

تشابكت الصور الشعرية الكلاسيكية مع لغة عصرية، مما جعلني أشعر وكأنني أتنقل بين زمنين؛ زمن الأندلس وزمن الحاضر.

يلومُ العذولُ وفـي الجرحِ ملحٌ

وأنــتَ تكـــابـرُ والشـعرُ بـوحُ

فكيـف تُـداري همومًـا وتُخفي

وتشـــدو كمـا للحمائـمَ نـــوحُ

مرايــاكَ تحـكـي وتظهرُ شيـبًا

وكــــــلُّ صحيـحٍ يقيـــنًا يصحُّ

تشبـثْ بخيـطٍ رفيـعٍ عسـى أنْ

يلـوحَ بريــــقٌ ويهديــكَ نُصحُ

ودعْ عنــكَ أحـلامَ صـبٍ تولّت

وعِشْ مــا تبقـى كأنّـكَ صرحُ

وَدَعْهُمْ يموتونَ في حسرةٍ هُم

خــداعٌ وزيــفٌ وعـهرٌ وقبـحُ

وأنـتَ الذي مـن ثنايـاكَ فيضٌ

وإنْ حـــلّ يــومًا بأرضِكَ شحُّ

اللغة والصور الشعرية: شلال من العواطف

لغة الدعمي مفعمة بالحياة، تعج بالاستعارات والتشبيهات التي تجعل القارئ يغوص في أعماق التجربة العاطفية. توقفت عند أبيات قصيدته "إلى أمي الراحلة"، حيث قال:

"كيفَ الدخول لدارٍ كنتِ شمعتها / ما خلتُ يومًا بأنْ تخلو من العمدِ".

هذه الصورة وحدها كانت كافية لتغرقني في دوامة من الحنين والفراغ الذي يتركه غياب الأحبة.

تيمات دينية ووطنية

كان واضحًا أن الدعمي استلهم شخصيات ومواقف دينية ليؤكد قيم العدل والثورة على الظلم. 

في قصائد مثل "رثاء الحسين"، لم يكن الحسين مجرد رمز، بل كان شعلة تسير في دروب الشعر لتضيء أركانًا منسية من قضايا الإنسان. 

وفي قصيدة "شكوى إلى مصر"، شعرتُ بحبٍ مرير، يجمع بين التغني بجمال الوطن والمرارة من خيبته:

"سلامٌ على مصر نبع جمالٍ / ومنّي السلامُ عليكِ يليقُ".

كانت الكلمات أشبه بلوحة تمزج بين الحنين والانكسار، وكأن الدعمي يقول إن الحب الحقيقي لا يخلو من الألم.

الرومانسية الممزوجة بالكبرياء

حتى في غزله، كان الشاعر يحتفظ بكبريائه، فلا يذوب تمامًا في الحب، بل يجعل من عاطفته نقطة ارتكاز أخرى للتأمل. 

في قصيدة "متيم وسمراء"، شعرت وكأنني أقرأ رسالة من عاشقٍ نبيل، يحاول أن يوازن بين شوقه وكرامته.

الفكر والتمرد

لم يكن الدعمي شاعرًا للعاطفة فقط، بل كان أيضًا صوتًا متمردًا ضد القهر والفساد. 

كلماته كانت صرخة حقيقية، تجعل القارئ يشعر بقوة الكلمة وقدرتها على هزيمة الطغيان.

نهاية الرحلة

وأنا أغلق صفحات المجموعة، شعرت وكأنني أنهيت رحلة بين ظلال الروح وأشعة الأمل.

استطاع عماد صلال عبد الدعمي أن يخلق تجربة شعرية تجمع بين عمق الماضي وهموم الحاضر، لتصبح هذه المجموعة شهادة على عصرٍ مليء بالصراعات والتطلعات. 

إنها ليست مجرد ديوان شعر، بل مرآة تعكس ما في داخلنا جميعًا، وتدعونا لأن نعيد التفكير في دور الكلمة في حياتنا.




Share To: