حكم خصم مؤنة نقل الزكاة من مال الزكاة ... تحليل فقهي في ضوء المصلحة المعتبرة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات 


حكم خصم مؤنة نقل الزكاة من مال الزكاة ... تحليل فقهي في ضوء المصلحة المعتبرة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات
حكم خصم مؤنة نقل الزكاة من مال الزكاة ... تحليل فقهي في ضوء المصلحة المعتبرة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات 


يقول السائل اُرسل مال الزكاة إلى القرية ليقيني من وجود المستحقين له ، وخاصة الأقارب، ولكن أقوم بإرسال المال عبر فودافون كاش ، أو اتصالات كاش وهم بالتأكيد يأخذون عموله لإرسال المال ، والسؤال هنا : هل يجوز لي وأنا أسكن المدينة إرسال الزكاة إلى القرية ، وهل يجوز لي خصم عمولة تحويل مال الزكاة من مال الزكاة  نفسه أم أدفعها من مالي الخاص  ؟

أقول وبالله التوفيق : من مصارف الزكاة مصرف العاملين عليها ، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط الإسلام فيه ، أي الموظفين الذين كانوا يقومون بجمع مال الزكاة من القادرين الذين بلغ مالهم النصاب ، وكانت مهمة العامل يأخذ المال من القادر ويدفعه إلى بيت المال ليقوم مسؤول بيت المال بدوره بإعطائه للمستحقين ، وكان الساعي يأخذ راتبه من بيت المال وليس من يد المزكي ، وهذا التدبير كان قديما ، أما الآن فالمسألة أصبحت في يد المزكي ، فيقوم بحساب مايملك من مال فإذا توافرت في ماله شروط إخراج الزكاة  ، وجب عليه إخراج الزكاة منه إلى المستحقين فإن تيقن وجودهم في بلد إقامته كان الأولى توزيعه عليهم وهذا هو الأصل في توزيعها ، وإن لم يتيقن ذلك فله أن يدفع الزكاة لمن تيقن استحقاقهم لها وإن أرسلها إلى القرية كما ورد في واقعة السؤال ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة آية 60 .  فالآية عامة في صرف الزكاة لمستحقيها سواء كانوا في بلد المال أو في غيرها ، وكذلك ماورد في حديث قبيصة رضي الله عنه عند مسلم : " تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أسْأَلُهُ فيها، فقالَ: أقِمْ حتَّى تَأْتِيَنا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لكَ بها، قالَ: ثُمَّ قالَ: يا قَبِيصَةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ، ورَجُلٌ أصابَتْهُ جائِحَةٌ اجْتاحَتْ مالَهُ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ -أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ- ورَجُلٌ أصابَتْهُ فاقَةٌ حتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِن ذَوِي الحِجا مِن قَوْمِهِ: لقَدْ أصابَتْ فُلانًا فاقَةٌ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ -أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ- فَما سِواهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ -يا قَبِيصَةُ- سُحْتًا، يَأْكُلُها صاحِبُها سُحْتًا. ففيه أن النبي صل الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات إلى المدينة المنورة ليصرفها في مستحقيها ، وكذلك ماثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه بإسناد تلقاه أهل العلم بالقبول ، حينما أرسله رسولنا الكريم إلى اليمن قاضيا ، فسأله النبي صل الله عليه وسلم بما تقضي ، قال بكتاب الله ، لأن هذا هو مصدر التشريع الأول ، فقال له النبي صل الله عليه وسلم ، وإن لم تجد حكم المسألة منصوص عليه في كتاب الله ، فقال معاذ رضي الله عنه أقضي بسنة رسول الله صل الله عليه وسلم ؛ لأنها المصدر الثاني للتشريع ، فقال له النبي صل الله عليه وسلم ، فإن لم يكن للمسألة حكم منصوص عليه في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله ، فقال مُعاذ أجتهد رأيي ولا أضل أو أظلم أو أحيف ، ففرح رسول الله صل الله عليه وسلم ، وربت على كتف مُعاذ وقال ، الحمد لله تعالى الذي وفق رسول رسول الله لما يُرضي الله ورسوله ، ومادار في هذا الحوار الراقي المعلم بين رسولنا الكريم وبين قاضيه إلى اليمن يفتح آفاق الاجتهاد والعمل بما يُحقق المصلحة فيما لا يوجد عليه نص خاص في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله الكريم ، بل إعمال العقل ومراعاة واقع الناس وحاجاتهم ومتطلبات حياتهم في ضوء القواعد العامة في القرآن والسنة ، فمن لم يعرف من المجتهدين أحوال الناس دهمه الناس ، وهذا ماألمح إليه مُعاذ رضي الله عنه في حواره مع مُعلم البشرية صلوات ربي وسلامه عليه  ، وقد طبق مُعاذ هذا المنهج واتضح جليا في تحصيله مال الزكاة ممن توفر عندهم النصاب ،كما أورده البخاري معلقا تعليقا مجزوم به في كتاب الزكاة  ، فقد لاحظ مُعاذ أن اليمن بلد صناعي تنتشر فيها صناعة الثياب ، وتقل فيها الثروة الزراعية ، ومجتمع المدينة المنورة الذي خرج منه مُعاذ مجتمع زراعي ، وتقل عندهم الصناعات وخاصة صناعة الثياب ، فوجد مُعاذ أنه من الإجحاف أن يأخذ الحب من أهل اليمن وهم في حاجة إليه ، ويرسله إلى فقراء المدينة المنورة وهم ليسوا في حاجة إليه ، فاجتهد رأيه وأعمل عقله في ضوء حواره مع رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم ، وقال لأهل اليمن من الأغنياء الذين وجبت الزكاة في أموالهم إتوني عرض ثياب خميص أو لبيس بدلا من الحب والذرة ، فهذا أيسر لكم ، وأنفع لأصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، فهنا نقل مُعاذ الزكاة من بلد لآخر ، ولم يكتف بهذا بل أخذ القيمة مكان المنصوص عليه في الزكاة إعمالا للمصلحة ومراعاة حاجة الناس وهي بلاشك أهم أسباب تشريع الزكاة ، أما عن مؤنة توصيل الزكاة إلى القرية حتى وإن كان هو الذي سيسافر بها خاصة  فمعلوم أنه ينفق مالا كأجرة المواصلات ،أو بإرسالها عن طريق فودافون كاش أو اتصالات كاش أو غيرها ، فالأولى  أن يدفع عمولة التحويل تطوعا من ماله ، أو يقوم بتوزيع الزكاة في البلد الذي يُقيم فيه ويتحرى من يستحقها ماأمكن، أو تأخيرها لأيام يسيرة يطمئن أنها ستصل إلى المستحقين دون تكلفة ، وأما خصمها من مال الزكاة فمحل خلاف بين الفقهاء ، وقد منعها الشافعية والحنابلة دون دليل أو علة معقولة ، وقالوا تكلفة نقل الزكاة على رب المال " المزكي " ، حيث قال النووي : " حيث جاز النقل أو وجب فمؤنته على رب المال " ومثله في دقائق أولي النهى للحنابلة  وقالوا مؤنة تحويل مال الزكاة من المزكي ولا تُخصم من الزكاة بل يصل الحق كاملا لمستحقه ، أما الحنفية فلم أقف لهم على قول في المسألة ، وأما المالكية فقد ذهبوا إلى أن أجرة نقل الزكاة تكون من بيت المال ، أي لا تؤخذ من المزكي ولا من مال الزكاة ، فإن لم يوجد بيت مال ، تُباع الزكاة ويُشترى بمثلها في البلد الذي تُنقل إليه .

وبما أن حكم المسألة أقوال مجردة عن دليل يُعتمد عليه من قرآن أو سنة أو قياس معتبر ، وإنما المعول عليه هو تحقيق المصلحة ، أقول : إذا كان في نقل الزكاة مصلحة راجحة لوجود المستحقين يقينا ولن تُنقل إلا بتكلفة ، فللمزكي واحد من أمرين : 

الأول : التصدق بأجرة التحويل سواء حوله عن طريق وسائل الاتصالات أو سافر هو بها ، أوأرسل بها شخصا بعينه ، وهو مأجور بلاشك ، وفي هذا الرأي يجمع بين الأقوال الواردة في المسألة . 

والثاني : يدفع أجرة تحويل المال من مال الزكاة نفسه ، أي إذا كان سيرسل مثلا خمسة ألاف جنيه وتكلفة تحويلها 50 جنيه ، فيدفع الخمسون جنيه من الخمسة آلاف ويصل إلى يد المستحقين 4950 جنيه، وذلك تيسيرا على المزكي ، ومراعاة للمصلحة ماأمكن ، فقد كان السعاة يقبضون مال الزكاة على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم من أرباب الأموال ، ورب المال لا يُكلف شيئا إلا مال الزكاة فقط ، فلم يكلفهم رسول الله صل الله عليه وسلم بشيء زيادة عن ذلك  ؛ لأن الزيادة غرامة لم يأت بها نص ، وعليه أقول إذا كانت وسيلة نقل الزكاة تحتاج إلى كلفة وعمولة فتُخصم من مال الزكاة وهذا القول هو ماذهب إليه الفقيه ابن حزم الظاهري وحكي فيها الإجماع ، ويقصد به الإجماع السكوتي لأصحاب النبي صل الله عليه وسلم وتابعيه رضوان الله عليهم جميعا ، فليس لهم في المسألة قول يُعتمد عليه في المنع فيكون الأصل الإباحة ، فقد جاء في المحلي : " مسألة 692 : " وليس على من وجب عليه الزكاة إيصالها إلى السلطان لكن عليه أن يجمع ماله للمصدق ويدفع إليه الحق ، ثم مؤنة نقل ذلك من نفس الزكاة وهذا مالا خلاف فيه من أحد ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث المصدقين وهم السعاة فيقبضون الواجب ويبرأ أصحاب الأموال من ذلك ، فإن لم يكن مصدق فعلى من عليه الزكاة إيصالها إلى من يحضره من أهل الصدقات ولا مزيد ؛ لأن تكليف النقل مؤنة وغرامة لم يأت بها نص ، ولا إجماع وبالله التوفيق ، ولا فرق بين من كلفه ذلك ميلا أو من كلفه إلى خرسان أو أبعد " أ.هـ. والله تعالى أعلى وأعلم .



Share To: