رحلة فى أروقة الروح | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
![]() |
رحلة فى أروقة الروح | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة |
في حلم مليئ بالناس، الجميع يضحك بصوت عالٍ، يتحدث عن إنجازاته، ويبدو أن كل شخص يحاول أن يكون “الأفضل” في الغرفة. ثم هناك شخص يجلس بهدوء، لا يحاول إقناع أحد، كلامه بسيط وصادق. يراه الجميع للحظة، يبتسموا، ثم يعودوا إلى الحفلة المزعجة لأن “الصخب أكثر إثارة”.
يجلس هذا الشخص الهادئ وأظننى اعرفه وينشد فى صوت خافت اتعبه الزمن فيقول:
تنهيدتان وخيبتان واااااه
من يشتري حزني وماالقاه ؟!
من يحتوي قلبا تلحف نزفه
ويخفف الفقد الذي اضناه
من ذا يكفكف ادمعي لما همت
وجعا ومن وجع النوئ ويلاه
فأشد يلقى المحب من الهوئ
عضف الحنين وبعد من يهواه
هذا الشخص كان أنا، نعم أنه أنا وهذا هو حال الأغلبية مع الأشخاص الحقيقيين مثلى. يلتقوا بنا، ينبهروا للحظة، ثم يتجاهلونا لأننا لا نصنع ضجيجًا. نحن نعيش في عالم يحب المظاهر. نطارد الأشخاص الذين يجيدون التصنع، ونتجاهل أولئك الذين يعطون من قلوبهم دون شروط. لأننا ببساطة اعتدنا الزيف.
لماذا نطرد الحقيقي ونبقى مع المزيف؟” كم مرة في حياتنا قابلنا شخصًا نقيًا؟ شخص لا يخدعك، لا يجعلك تشعر أنك أقل. شخص يحبك كما أنت. وماذا فعلت؟ ربما تجاهلته. ربما أخذته كأمر مسلم به. ثم عندما غادر، شعرت بالفراغ. المشكلة ليست في هؤلاء الأشخاص الصادقين، بل فى هؤلاء الغالبية.. فهم يحبوا الأشخاص الذين يظهرون لامعين، حتى لو كانوا فارغين من الداخل.
المضحك .. أننا عندما نفقدهم، نقضي وقتًا طويلًا في محاولة العثور على أشخاص يشبهونهم. لكن الحقيقة القاسية هي: النقاء لا يُعاد إنتاجه. إنه نادر، وإذا أضعته، فأنت الخاسر.
لماذا نطرد الحقيقي؟ لأننا نخشى البساطة. نراها ضعف . نكره ان نرى أنفسنا ضعفاء نخاف من مواجهة أشخاص يجبروننا على أن نكون صادقين مع أنفسنا. الأشخاص النقيون يجعلوننا نشعر بالراحة، لكنهم أيضًا يجعلوننا ندرك كم نحن مزيفون. ولهذا السبب، نبتعد.
في النهاية، السؤال ليس عنهم، بل عنك. لماذا لا تستطيع الاحتفاظ بشخص حقيقي في حياتك؟ ربما لأنك مشغول بإرضاء الأشخاص الخطأ. لذا، عندما تجد شخصًا نقيًا، توقف. لا تدعه يغادر. لأنك إذا فقدته، قد لا تجد مثله أبدًا.
انها حقائق وسط عبثية الواقع. ما الذي نفعلهُ نحنُ هُنا؟ من أنا؟ ومن أنت؟
أنت قارِئٌ يُصيد بعضٌ من كلماتي لتصِفهُ، و أنا كاتِبٌ ينصاع لملكوتهِ الخاص، ولمملكتهِ العارِمة، هُناكَ حيثُ الأسطُر موطني، والكلمات شعبي، حيثُ الأحرُف تُشكِّل سيمفونية عبثية، ترانيمُها همسات شيطانية! في بحورِ الأرض تُدرِككَ أينما كُنت..أما زِلتَ عالِقاً يا هذا؟
تستمِر المعركة بينَ الحقيقى والمزيف، بين قلبي وقلمي،
ولكني أُريد سماع ما يريدهُ عقلي،
حسناً.. تعالَ يا عقلي عاهدني على ما تُريد؛ إني كاتِبٌ مليءٌ بالوفاءِ ! ولكن ما الذي أتى بي هُنا؟ تحومُ حولي غُمةٌ من الأسى.
أنا فاقِد المأوى، أتضور شوقاً لبلدي، أتكور على ذاتي، ورُبما قلبي،
أسألهُ كُلَّ حين، الضائِع يبكي لشوقهِ لدارهِ، أما تائِه القلب لمن يبكي؟
حتى دموعي لم تعُد تسعفني.
على جؤجؤِ عروشٍ من التعبِ ترقُد أحلامي بسلامٍ.
لم أكُن ناعس العينين، ولا مُصاباً بلعنةِ اللامبالاة، لم أكُن ساخِراً ولا فاقداً للأمان؛ إلا حينَ فقدتُ نفسي!
باتَ قلمي عاجِزاً معي. أنطُق بحرفٍٍ،
وسَتُسخِّر لكَ غيومِهِ التراجيدية مسرحاً لتبكي فيه؛ لأنَّ الحياة كُلها صاخِبة غير موزونة، وغريبة نوعاً ما.
أما أنت قارِئ يبحث عن ما ينال إعجابهِ، ويرضي وقتهُ الذي قرأ فيهِ،
أنا أكتُب ما أفتقدهُ، أو أُهدِّئ من أنيني، أُعبِر عن أشواقي، أو عن ولهٍ اعتصر بهِ قلبي؛ كُلهُ في نصوصي!
إني مليءٌ بالإحساس؛ بينما أنت تبحث عنهُ في كلماتي.
أنا كاتب أجمع الأشلاء... فهى انفطار قلب مكتمل النقاء ... هى انطفاء روح مزقها البلاء ... هى عقل عاجز رغم كل الذكاء ... هى الموت رغم حياة الأعضاء ... هى التخلى طوعا عن الأحباء ... حتى يظلوا بعيدا عنك سعداء ... هى الإنكفاء بلا أمل و بلا رجاء.
أنا لا أحملٌ أسرار الخلود، ولا أسعى لأن أكون معجزًا في هذا الوجود الذي يتناثر بين يديَّ كحبات الرمل الهاربة من بين الأصابع، ولا أدعى أن لدى سر الكون. كل ما أفعله أنى استجمع قواى لأسكن داخل هذه الفوضى التي تسمى الحياة، أستنطق الصمت في أزقتها المظلمة، علّني أُطوِّع الزمن ليصبح عبئًا أخف، وأجعل من الألم نافذةً أطلُّ منها على الفجر، بحثًا عن معنى يزيل بعضًا من هذا العجز الذي يغلفنا.
أوراقٌ وقلمٌ وكوبٌ من القهوة، وانا ضائعٌ بين الصفحات، أغرقُ في حروفٍ لم يكتشفها أحد، فلا أحدٌ يخدشُ سكونَ فكرى العميق،
ولا أحدٌ يفكرُ في تمزيقِ صمتى المقدس، كم أنا غريبٌ، وكم أنا حُرٌّ في عالمٍ من الحبر والورق.
حين يشتعل القلب ولا تندلع النيران، وحين تصرخ النفس ولا يسمعها أحد، يولد في الداخل ضجيجٌ لا يُحتمل. هو صوت الأفكار حين تتشابك، وصدى الآهات حين تتراكم.
الروح تضجُّ بما لا يُقال، بما لا يجرؤ اللسان على البوح به. تضيق بأسرارها، تئنّ تحت وطأة التمنيات المُجهضة والآمال المُغتالة.
وكأنّ كلّ صمتٍ يعيشه الجسد هو انفجارٌ في أروقة الروح. وكأنّ كل ابتسامة مزيفة هي قناع يحجب خلفه حطام الأحلام.
يا لهذا الضجيج! لا يهدأ، لا يرحم، ولا يبرح مكانه. كم تُرهقنا هذه الحروب التي نخوضها في دواخلنا، نحن الجند والخصوم، نحن الساحة والضحايا.
ولكن، وسط هذا الضجيج، يولد شيءٌ آخر. يولد الإدراك. إدراك أنّ الروح لا تصرخ إلا حين تكون حيّة، وأنّ الضجيج ليس إلا علامة على أنّنا ما زلنا نقاوم، نحلم، ونؤمن أنّ ما في داخلنا أكبر من أن يُقهر.
فليعلُ الضجيج إذًا، ما دام الصمتُ موتًا بطيئًا.
Post A Comment: