دليل تصحيح أخطاء المحرم في عرفات | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
![]() |
دليل تصحيح أخطاء المحرم في عرفات | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
يُعد الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، حتى قال النبي ﷺ: «الحج عرفة» الترمذي بإسناد صحيح فهو لحظة التوبة الكبرى، وموعد مغفرة الذنوب وعتق الرقاب، ومجمع الدعاء والابتهال، حيث يفيض الله برحماته على من وقف خاشعًا بين يديه. ولعظم شأن هذا الركن، كان لزامًا على الحاج أن يتهيأ له علمًا وعملاً، وأن يجتنـب الأخطاء التي قد تُنقِص أجره أو تُفسد نسكه. وفيما يلي بيان لأهم الأخطاء الواقعة في عرفة مع تصحيحها.
1- الخطأ : ترك المبيت بمنى ليلة عرفة ظنًّا أنه لا يشرع أصلًا أو أنه لا أهمية له.
الصواب: المبيت بمنى ليلة عرفة سنة مؤكدة، فعله النبي ﷺ، وداوم عليه الخلفاء الراشدون، وقد أوجبه بعض الحنابلة، إلا أن الصحيح من مذهبهم أنه سنة، كما قال النووي في المجموع: "وقال ابن المنذر: وأجمعوا أن من ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لا شيء عليه". وعليه، فتركه لا يوجب فدية، لكن يفوّت على الحاج سنةً من سنن النسك.
2- الخطأ: عدم الوقوف بعرفة في الوقت المحدد شرعًا
الصواب: الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه، ويكون في الوقت المحدد شرعًا، وهو من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة (وقت الظهر) إلى فجر يوم النحر (العاشر). ومن لم يقف بعرفة في هذا الوقت فاته الحج، ولا يُجزئه غيره، لأن النبي ﷺ قال: «الحج عرفة» .
3- الخطأ: نزول بعض الحجاج خارج حدود عرفة يوم التاسع من ذي الحجة، والبقاء في أماكنهم حتى الغروب، ثم الانصراف إلى مزدلفة، ظنًّا أنهم قد أدركوا الوقوف بعرفة.
الصواب: الوقوف بعرفة ركن أساسي من أركان الحج، ولا يصح إلا إذا كان داخل حدود عرفة الشرعية، لقوله ﷺ: «الحج عرفة» ومن وقف خارجها لم يصح حجه، وعلى الحاج أن يتحقق من موقعه داخل عرفة، مستعينًا بالعلامات الإرشادية المنتشرة، أو بسؤال المرشدين والمعنيين بخدمة الحجيج ؛ حتى لا يفوّت الركن الأعظم من الحج ، فالعبرة أن يكون الحاج داخل حدود عرفة الشرعية، حتى وإن كان واقفًا أو جالسًا أو داخل وسيلة نقل ، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف المحدد شرعًا، ولو لحظة واحدة، فقد فاته الحج.
4- الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج أن الوقوف بعرفة لا يصح إلا بعد الزوال، وأن من وقف قبل الزوال لا حج له مطلقًا.
الصواب: الصحيح أن الوقوف بعرفة يصح نهارًا قبل الزوال وبعده، كما يصح ليلًا إلى فجر يوم النحر، وهو مذهب الحنابلة ورجحه عدد من المحققين، لحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه» الترمذي بإسناد صحيح . فدل الحديث على إجزاء الوقوف في أي جزء من يوم عرفة أو ليلته، والأفضل الاقتداء بهدي النبي ﷺ في الوقوف بعد الزوال حتى الغروب، لكنه ليس شرطًا لصحة الوقوف على الراجح .
5- الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج أن من لم يمكث بعرفة حتى غروب الشمس بَطَل حجّه، أو وجب عليه دم.
الصواب: الوقوف بعرفة نهارًا فقط يُجزئ عند جمهور العلماء، لكن الخروج قبل غروب الشمس خلاف السنة، لأنه ﷺ لم ينصرف منها إلا بعد غروب الشمس.
وقد اختلف الفقهاء: فمنهم من أوجب المكث إلى الغروب، واعتبر الدفع قبل الغروب مخالفة تستوجب دمًا (وهو مذهب الحنفية والمشهور من مذهب الحنابلة).
ومنهم من قال إنه مستحب لا واجب، وأن من دفع قبل الغروب لا شيء عليه (وهو الصحيح عند الشافعية، ورواية عن الحنابلة، وبه قال النووي والشنقيطي).
والراجح: أنه لا يجب الدم، بل يستحب البقاء إلى الغروب، لكن لا يُؤمر من دفع قبل الغروب بدم، لعدم ثبوت الدليل الموجب، خاصة مع المشقة الشديدة في الزحام، وقد تقرر أن المشقة تجلب التيسير.
6- الخطأ: الانشغال في يوم عرفة بما لا ينفع؛ كالغِيبة، والنميمة، والألعاب، وشرب الدخان أو الشيشة، وقضاء الوقت في أحاديث الدنيا.
الصواب: يوم عرفة من أعظم أيام الله، وهو موطن إجابة الدعاء وغفران الذنوب، فينبغي على الحاج أن يغتنمه بالذكر، والدعاء، والتلبية، وقراءة القرآن، ويجتنب كل ما يُذهب بركة الوقت ويُضعف الروحانية ، ويُستحب الإكثار من التهليل والتكبير، والتلبية، وطلب المغفرة، فإنها ساعات عظيمة لا تُعوّض ، ومن تعظيم شعائر الله أن يُنزّه هذا اليوم عن اللهو واللغو، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 34].
7- الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج بوجوب الصعود على جبل الرحمة والوقوف عند الصخرات تحديدًا؛ لأنه الموضع الذي وقف فيه النبي ﷺ.
الصواب: الوقوف بجبل الرحمة ليس واجبًا ولا سنة بذاته، بل المشروع أن يقف الحاج في أي موضع داخل حدود عرفة؛ لحديث النبي ﷺ: " وقفتُ هاهنا، وعرفةُ كلُّها موقف" [رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن ، كما أن التزاحم والصعود على الجبل قد يسبب الأذى ويفوّت على الحاج الخشوع والسكينة، وهو مما لا يُستحب ولا يُطلب، بل الأولى أن يقف الحاج حيث يتيسر له، ويقبل على الله بقلبه ولسانه.
8- الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج أن صيام يوم عرفة سنة لهم أثناء وقوفهم بعرفة.
الصواب: لا يُسنّ للحاج أن يصوم يوم عرفة، بل يُستحب له أن يفطر؛ ليتقوّى على الذكر والدعاء والوقوف، وقد ثبت أن النبي ﷺ لم يصمه في حجة الوداع. ، وورد عند أبي داود بإسناد حسن "نهى النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة بعرفة"، أي لمن كان حاضرًا بالموقف ، أما صيام يوم عرفة، فهو سنة في حق غير الحاج، لما فيه من تكفير الذنوب، وقد روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ، وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) رواه مسلم.
9- الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج أن عليهم صلاة عيد الأضحى في الحرم المكي أو في منى.
الصواب: لا تُشرع صلاة عيد الأضحى في حق الحاج؛ لانشغاله بأعمال النسك في يوم النحر، كالرمي والذبح والحلق والطواف، وقد أجمع العلماء على أن الحاج لا تُشرع له صلاة العيد في منى، إذ لم يصلِّها النبي ﷺ ولا أحد من خلفائه الراشدين وهم في الحج ، كما أنه لا جمعة على الحاج إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة، لأنهم يجتمعون للوقوف والدعاء وليس لصلاة الجمعة. قال الإمام مالك رحمه الله: "لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمِنى أيام الحج".
10 - الخطأ: ترك التلبية أثناء المسير إلى عرفة، والانشغال بالقيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الأذكار.
الصواب: يُسنّ للمحرم الإكثار من التلبية خاصةً في طريقه إلى عرفة، فهي من أعظم شعائر الإحرام، وتُشرع من حين الإحرام وتستمر حتى رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يرفعون أصواتهم بها حتى تُبَحّ حناجرهم ، أما الانشغال بالحديث الدنيوي أو الجدل واللغط، فهو من إضاعة الفضل في هذا اليوم العظيم.
11- الخطأ: الاعتقاد بأن أشجار عرفة لا يجوز قطعها للمحرم، كما هو الحال في منى ومزدلفة.
الصواب: تحريم قطع الأشجار مرتبط بالمكان لا بالإحرام، فالمحرم لا يُمنع من قطع الشجر إلا إن كان داخل حدود الحرم ، أما عرفة فهي خارج حدود الحرم، ولذلك يجوز قطع أشجارها وأغصانها وورقها، ولو كان القاطع محرمًا ، أما ما كان داخل حدود الحرم، فلا يجوز قطع شجره، سواء كان المحرم مُحرِمًا أو لا، لأنه داخل الحرم، لا لأنه محرم فقط.
12- الخطأ: اعتقاد أن صلاة الظهر والعصر يوم عرفة لا تُجزئ إلا خلف الإمام في مسجد نمرة.
الصواب: صلاة الظهر والعصر يوم عرفة تُجزئ في أي مكان داخل حدود عرفات، ولا يُشترط صلاتها خلف الإمام في مسجد نمرة ، بل الأولى أن يصلي الحاج في مكانه أو خيمته بطمأنينة وبدون أذى أو تزاحم، لقوله ﷺ: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ، لقوله ﷺ: « جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا » البخاري ، والمشقة في الحج مرفوعة عن الناس بفضل الله ورحمته.
13- الخطأ: عدم التوجّه إلى القبلة أثناء الدعاء في عرفة.
الصواب: من السنة أن يستقبل الحاج القبلة عند الدعاء يوم عرفة، لا أن يستقبل الجبل أو يتجه في أي جهة أخرى ، فقد ثبت عن النبي ﷺ في حديث جابر – رضي الله عنه – في وصف حجه أنه: «استقبل القبلة فجعل يدعو ويهلل ويكبر» مسلم .
14- الخطأ: أداء صلاة المغرب والعشاء في عرفة.
الصواب: السُّنّة أن يُؤخر الحاج صلاة المغرب والعشاء ويجمعهما جمع تأخير في مزدلفة بعد النزول بها، اقتداءً بالنبي ﷺ، إلا إذا خشي خروج وقت العشاء، فيصلي في الطريق إليها جمع تأخير أيضًا ، وقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه وصف حجّة النبي ﷺ أنه: «حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبِّح بينهما شيئًا» [رواه مسلم].
15- الخطأ: ترك المكان الذي نزل فيه الحاج أو الحاجة غير نظيف، والتهاون في التصرفات العامة من حيث الأخذ الزائد من الطعام أو الإضرار بالمرافق.
الصواب: ينبغي على الحاج أو الحاجة الالتزام بآداب النظافة العامة في الأماكن التي ينزلون فيها، فلا يأخذ من الطعام والشراب والعصائر التي وفرتها الحملة إلا بقدر حاجته، وإن فَضَل شيء أعاده إلى المكان المُخصص لجمع بقايا الطعام.
ويجب عليه أن يحرص على نظافة دورات المياه، فلا يُلقي على أرضها أو بداخلها مناديل أو فوطًا صحية، ويتأكد قبل مغادرتها من عدم ترك ما يؤذي من يأتي بعده، خاصّة إن كانت حاجةً أو عاملةً ، ويُستحب التعاون في الرحلة، خصوصًا بمساعدة كبيرات السن والمريضات والحوامل، في إيصالهنّ إلى مواضع قضاء الحاجة، وتوفير احتياجاتهن من طعام وشراب.
كما يجب اجتناب الغيبة والنميمة، والابتعاد عن القيل والقال، والحرص على آداب الإسلام في المشي، واللباس، والكلام، وغض البصر؛ فالحج رحلة تربوية وروحانية يجب أن يظهر فيها الأخلاق الإيمانية وتتجسد فيها معنى الأخوّة والتراحم.
16- الخطأ: الاعتقاد بأن الله تعالى لم يغفر له.
الصواب: هذا من وسوسة الشيطان، والله تعالى أكرم من أن يرد عبده إذا أقبل عليه بصدق. فالمؤمن يُحسن الظن بربه بعد بذل وسعه في الطاعة، والله وعد بالمغفرة والفضل. قال النبي ﷺ: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة" [رواه مسلم] ، وقال أيضًا:
"من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" [متفق عليه].أي أن من أتى بالحج على الوجه المشروع، مجتنبًا الرفث والفسوق، فإن جزاءه أن يُغفر له كل ذنوبه، ويعود نقيًّا كما ولدته أمه. فليحذر الحاج من القنوط، وليعش في ظلال الرجاء واليقين بمغفرة الله، ولا يُسيء الظن بربه الغفور الرحيم الذي قال: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] ، وقال تعالى : ﴿قُلْ يَـٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا۟ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53] .
17- الخطأ : الانشغال بالهاتف المحمول وتطبيقات التواصل
بعض الحجاج يقضون وقتهم في عرفات في تصفّح الجوال أو تصوير أنفسهم وبث مشاهد مباشرة، مما يفوّت عليهم فضل هذا اليوم العظيم ويصرفهم عن الدعاء والذكر.
18- الخطأ : تخصيص أدعية معينة لعرفة والاعتقاد بوجوبها
كمن يوزع على الناس ورقة بأدعية بعينها يظن أن النبي ﷺ التزم بها، فيظن الناس أنها واجبة أو مسنونة بعينها، وهذا غير صحيح، بل السنة أن يدعو بما تيسر له من خيري الدنيا والآخرة.
19- الخطأ : رفع الصوت بالدعاء جماعيًا وترديده خلف قائد.
وهو أمر مخالف للسنة، إذ لم يثبت أن النبي ﷺ دعا بهم جماعة، بل كل يدعو لنفسه، وإن كان الدعاء الجماعي جائزًا في بعض المواطن، لكنه في عرفات الأفضل فيه أن يكون كل حاج منشغلًا بخاصة نفسه. والله تعالى أعلى وأعلم .
Post A Comment: