الكاتب الجزائري / محمد بصري يكتب : آلبيـــــــــــــــــــــــــر كامو ...قصة معلم إبتدائية صنع فيلسوفا وكاتبا مسرحيا نادرا





كانت والدة آلبير كامو وتدعى "هيلين سينتاش" الاسبانية صماء لا تكاد تسمع همسا ولا صوتا على الإطلاق ولا تفقه ما يدور حولها عدا التواصل معها رمزا ويُعزى ذلك إلى مرض عارض قاهر أفقدها سمعها .حينها كان ألبير طفلا صغيرا ما جعله كثير التذمر والقلق والغضب .تربى على يد جدته الصارمة والمنضبطة والذكية.لما بلغ مرحلة النضج الأدبي والثقافي والكتابة أصبح أكثر قربا من أمه .أعالها وراقبها حبا إلى آخر دقيقة في حياته .للأسف توفي قبلها وكان غير راض عن المسافة التي خلقها الصمم ومرضها بينهما .كان يقول لأصدقائه كنت أود أن تتعرف عليا أمي ككاتب وروائي وناجح وصاحب أكبر جائزة إحتفائية هي "نوبل" بدل أن تتعرف عليا كإبنها فقط.

البير كامو (1913/1960) الفيلسوف الجزائري الفرنسي الذي يتهمه بعض النقاد أنه كان عدميا يرى الحياة لعبة عبثية وفوضى عاش حياة قصيرة وانتهى به الأمر مقتولا بصور درامية بعد اصطدام سيارته بشجرة جراء السرعة المفرطة. كان يقول دائما " لم أعد أميز في شخصيتي بين أنا الكاتب وأنا كامو ."لست أنا بل هو ذلك القلم الذي يكتب ويتذكر ويكتشف " . ترنحت حياته وشخصيته بين الميول الحمراء الشيوعية الراديكالية .أحَب الماويين ثم نقم وانقلب عليهم وانسحب بعد أحداث احتلال السوفييت للجمهوريات المحاذية له. تم رفض انتسابه للجامعة الجزائرية وحصوله على الدكتوراه 1938. تنكر لأفكار سارتر صديقه المحبوب وحدثت بينهما جفوة كبيرة انسحب على إثرها كامو من الكتابة في مجلة "الازمنة الحديثة " معترضا على الجمع التافه بين الشيوعية والوجودية رفض الإنضواء الهوياتي والتهوي الايديولوجي الأرعن لأن تهما كثيرة لاحقته مثل التشكيك في مواطنته وولائه لفرنسا . بعدها أُعجب الرجل بالثوار الجزائريين و أبدى الدعم الايديولوجي والثقافي لهم فقد جعل روايته "السقوط" مسرحا لإعادة الاعتبار للنضال الجزائري مسميا المعضلة الجزائرية أنذاك "بالمأساة الشخصية" وصدرت هذه الرواية سنة 1956 بعد ثورة الاحرار 1954. المأساة الوجودية لهذا الكاتب المتمرد الكئيب لم تنتهي فقد اتهمت دوائر غربية الاتحاد السوفييتي الشيوعي بالتآمر وتدبير موت ألبير كامو خاصة بعد المعارضة التي تبناها بعد غزو المجر سنة 1957.هذا الاجتياح السافر جلب نقمة ثقافية للسوفييت فقد قلّل من أواصر الترابط الثقافي مع نخب كثيرة وخلق جوا سوداويا و قلاقل فكرية كان أشرس المعارضين فيها التيار الوجودي الحركي سارتر وسيمون ذي بوفوار ناهيك عن المعسكر الثقافي الليبرالي والمتهم بتدبير الاغتيال هو ديميتري شيبيلوف وزير خارجية سوفييتي غامض شوفيني وحانق على كتابات كامو التي قادت معارضة ثقافية ضد الشيوعية .لكن أعتقد غير جازم أن الميول النفسية لتدمير الذات والتي رافقته منذ كان طفلا وتصوره العبثي هو من قاده إلى حتفه ونهاياته غير السعيدة.

آلبير كان مفرطا جدا في الكآبة والتأفف من الواقع لا يأبه للسعادة المؤقتة أو النزوات السلبية والظرفية الحياة بالنسبة إليه تافهة إلى درجة الغثيان.الانتحار ضرورة وبراديغم أنطولوجي ولطالما فكر وحاول في وضع حد لحياته التي كان يرى فيها مغامرة مبتذلة تافهة تشبه الرقص فوق عتبات الموت. تراجع عن تهافت نفسه للموت الارادي قائلا "يحتاج المرء منا للمزيد من الشجاعة لكي يعيش لا لكي ينتحر".الحياة ليست إلا مسرحا للتملق والمحاباة ولا شيء يستحق الركض.فضّل التريث على أن يجازف بدحرجة الصخرة اللعينة وإعادتها من أسفل إلى أعلى كما فعل سيزيف المعاقب أبديا من والده زيوس.لعنة آلبير هو حسه المرهف وشجاعته الانسانية.

من صنع الرجل المثقف والمسرحي والشجاع ؟ أكيد كان معلمه. جيرمي لويس الذي اكتشف مبكرا ارهاصات موهبة الكتابة والإبداع في شخص آلبير و الذي قدم له الدعم النفسي والمادي وساعده في ولوج الثانوية والاستفادة من التكوين الاعدادي الذي كان مكلفا وعسيرا في الجزائر العاصمة وقتئد رزحت الجزائر للأسف تحت إحراجات أبخس مراحل الكولونيالية والامبريالية الاستيطانية. وقف المعلم مع تلميذه في مرضه العنيف الذي أعاقه كمراهق ويافع فقد التهم السل أجزاءً من رئتيه وجعله شبه معدم غير قادر على الحركة.انتقل الكاتب الجزائري البير كامو للصحافة والنضال والتأليف والقتال الشرس ضد المادية والبراغماتية والاستعمار .حتى عام تتويجه وصعود نجمه كحائز على أكبر تشريف أدبي وعلمي تقدمه الجمعية الملكية النرويجية "نوبل" بتزكية من البرلمان النرويجي سنة 1957. بعد سماعه الخبر انهارت دموعه وتراءت له صورة معلمه فإنساب قلمه شاهدا ومادحا ومعترفا بما يشبه القبلة والعناق بيم طفل بريء ومعلم شهم إنساني وهذا نص رسالته:

عزيزي سيد جيرمين

سمحت لشعوري الغامر أن يهدأ قبل أنا أحدثك من صميم قلبي. فلقد نلت شرفًا عظيما جدا ، شرفٌ لم أبتغيه ولم أطمح له.

لكنني عندما علمت بخبر فوزي بالجائزة ، أول ما خطر على ذهني ، بعد والدتي ، هو أنت. فلولاك ، ولولا هذه اليد العطوف التي مددتها لذلك الطفل المسكين الذي كنته ، و لولا تعاليمك ولولا وجودك كقدوة ، لم يكن كل هذا ليحدث.

لا أحصل على هذا شرف عظيم كهذا دائما. لكنني أريد أن أستغل هذه الفرصة الآن لأعبر عن مكانتك لدي سابقا و حاليا ، و أؤكد لك أن جهودك ، و عملك ، و تفانيك ما زال يعيش في أحد تلاميذك الصغار. الذين و برغم كل هذه السنين ، لم يتوقفوا عن كونهم تلاميذك المدينين لك.

أعانقك بكل قلب البير كامي.

بذلك يسجل آلبير أجمل الرسائل وأنبلها على الإطلاق ترجمة لأشواق كاتب فيلسوف عانق بحب روح معلمه.

محمد بصري الجزائر.

المراجع

البير كامو "الغريب" ترجمة محمد ايت حنا دار الجمل.

محمد مخلوف مقال ألبير كامو ..مرجعيات بائسة ألا جيرمان. متدى البيان.

الكاتب الجزائري / محمد بصري يكتب : آلبيـــــــــــــــــــــــــر كامو ...قصة معلم إبتدائية صنع  فيلسوفا وكاتبا  مسرحيا نادرا


Share To: