الهجرة النبوية حدثٌ عظيم وهجرةٌ فريدةٌ من نوعها | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف


الهجرة النبوية حدثٌ عظيم وهجرةٌ فريدةٌ من نوعها | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
الهجرة النبوية حدثٌ عظيم وهجرةٌ فريدةٌ من نوعها | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

 


من أروع الأمثلة في تاريخ انتصارات الخير على الشر حادث الهجرة النبوية الشريفة، تلك الهجرة إلى الله، تلك الهجرة التي كانت هجرًا للظلم والفحش والطغيان، تلك الهجرة التي أسَّست لعالَم خيريٍّ تسود فيه القيم والمثل والأخلاق، عالم تكون فيه كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

لقد تعرَّض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لحملات إيذاء عاتية منذ أن بدأ يجهر بدعوته المباركة، لم يرُق للكُفار ما جاء به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من عند ربه، فأخذوا يُضيِّقون عليه ويروِّعون أتباعه ويُعذِّبون أنصاره، ويحاصرون قومه، فكيف له أن يجعل الآلهة إلها واحدًا؟


لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة حدثًا تاريخيًّا عظيمًا، ولم تكن كأيِّ حدثٍ، فقد كانت فيصلًا بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية هما:


المرحلة المكية، والمرحلة المدنية، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها، والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشرف مكانًا وأعظم من مكة والمدينة، وقد غيَّرت الهجرة النبوية مجرى التاريخ، وحملت في طيَّاتها معاني التضحية والصحبة، والصبر والنصر، والتوكُّل والإخاء، وجعلها الله طريقًا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته .


لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة لبناء دولة الإسلام، وإعزازًا لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصرٍ وبركة على الإسلام والمسلمين، ولذا فإن دروس الهجرة الشريفة مستمرة، لا تنتهي ولا ينقطع أثرُها، وتتوارثها الأجيالُ جيلاً بعد جيلٍ .


 لقد تركت الهجرة النبوية المباركة آثارًا جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر النبوة، ولكنها امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثارها شمِلت الإنسانية عامةً؛ لأن الحضارة الإسلامية التي قامت قدَّمت ولا زالت تقدِّم للبشرية أسمى القواعد الأخلاقية والتشريعية التي تنظِّم حياة الفرد والأسرة والمجتمع .


فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لا تُحَدُّ آثارها بحدود الزمان والمكان؛ لأنها سيرة القدوة الطيبة والأسوة الحسنة .


قال الله تعالى: 


﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ 


سورة الأحزاب


إن الهجرة النبوية حدثٌ عظيم، قلَبَ مجرى التاريخ، وغيَّر مساره؛ حيث انتقل المسلمون من حالة الأقلية والاستضعاف، إلى حياة العزة وبناء الدولة، وانتقل العرب من حياة الحروب والثأر والمكر، إلى مجتمع التآخي والتحابب، ومن حياة عبادة الأحجار والأوثان، إلى عبادة الله الواحد الديان .


أخرج أبو نعيم في تاريخه: 


أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث .


و قال بعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرِّخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم: ابدؤوا برمضان، فقال عمر: بل بالمحرم؛ فإنه منصرَف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه .


فالتأريخ بالهجرة إيذان بتشبث الأمة بتاريخها، واعتزازها بشخصيتها الإسلامية، وتميُّزها بمنهجها وحضارتها، بدل ما نراه اليوم من افتتان بعض مثقفينا بتقليد غير المسلمين، والتشبُّه بهم في تاريخهم وأعيادهم، وأزيائهم وثقافاتهم، ولو كان في التأريخ بتاريخهم خيرٌ لفعله عمر، فقد قال ابن كثير في البداية والنهاية : 


جمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرَّفون به حلول الدَّين وغير ذلك، فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس، فكره ذلك، وقال قائل: أرِّخوا بتاريخ الروم، فكره ذلك ، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ تشبَّه بقومٍ، فهو منهم .


رواه أبو داود


إنها الهجرة التي انفردت عن سائر الهجرات، فلم تكن هجرته عليه الصَّلاة والسَّلام من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة المنوَّرة كأيِّ هجرةٍ حدثت من قبل أو ستحدث من بعد، إنَّها هجرةٌ فريدةٌ من نوعها، وهذا ما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يتَّخِذَ من حادثة الهجرة النبويَّة منطلَقًا للتَّاريخ العربيِّ الهجريِّ، وحصل إجماعٌ من الصَّحابة الكرام على ذلك.


ولهذا يجب علينا الاهتمام بالتَّاريخ الهجري وعدم إهماله؛ باعتبار أنَّ حادثة الهجرة النبويَّة هي أهم وأبرز حَدَث في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة. فحريٌّ بالمسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ أن يحيوا هذه الذِّكرى، وأن يتدارسوا تفاصيلَ حادثة الهجرة، وأن يستلهموا العِبَر والعِظات منها؛ فإنَّ في هجرة المختار موعظةً لنا، وفي هجرة المختار تنبيهًا.


ولقد أثنى القرآن الكريم ومدح المهاجرين والأنصار على مواقفهم الإيمانيَّة بقوله عزَّ وجلَّ في سورة الأنفال: 


﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾


 [الأنفال: 74]


كما وصف القرآن الكريم المهاجرينَ بالصَّادقين في قوله تعالى في سورة الحشر: 


﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 


[الحشر: 8]


ووصف القرآن الكريم الأنصارَ بالمفُلحين في قوله عزَّ وجلَّ في السورة نفسها:


 ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾


[الحشر: 9]


عندما يَذكُر المسلم التاريخ الهجري، ويَخُطُّه بيمينه، ويرتبط به معتزًّا؛ فإنما يدل ذلك على وعيه وإدراكه لما يعنيه هذا التاريخ في واقع الأمر، وما يمثله بالنسبة إليه، وأثره على الإنسانية جميعًا.


فليس هذا التاريخ أرقامًا تُكْتَب، أو حُروفًا تُسطر؛ وإنما هو المجد الذي بدأ حيث بَدَأ هذا التاريخ، والنور الذي سطع مع بزوغ فَجْرِهِ، والبناء الذي شيدت أُولى لبناته مع خطوات الهجرة المُباركة، حيث قام للإسلام دولةٌ، وللإيمان قوةٌ وسط بحر الجاهلية المُدْلَهِمّ.


فمن هذه الهِجْرة المباركة بدأت خطوة أُمَّة الإسلام، وانطلقت مسيرتها إلى قيادة البشرية وهدايتها إلى الصراط المستقيم، والنور المبين بتحمُّلها الأمانة، بعد أن أفلست الأمم الأخرى، فكانت هذه الأُمَّة قائدةً لِلنَّاس، وشاهدةً عليْهِم، وكانتِ الهجرة إيذانًا بالتطبيق العملي لأحكام الإسلام على الواقع المشهود لِلنَّاس، في ظِلّ دولَتِه الرشيدة.


أخيراً :


أهنئ جميع المسلمين بالسنة الهجرية الجديدة وأدعو الله تبارك وتعالى أن تكون سنة مباركة على المسلمين، وأن يمن عليهم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.

اللهم اجعل هذا العام الهجري الجديد عام عزة ونصرة للإسلام والمسلمين .


اللهم آمين يارب العالمين.

Share To: