أوراق دامعة في سجلات قناة السويس | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم / أستاذ الجغرافيا السياسية - قسم الجغرافيا- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر


أوراق دامعة في سجلات قناة السويس | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم / أستاذ الجغرافيا السياسية - قسم الجغرافيا- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر
أوراق دامعة في سجلات قناة السويس | بقلم الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم / أستاذ الجغرافيا السياسية - قسم الجغرافيا- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر




دُعيت اليوم الأحد 11 أغسطس 2024 لعمل لقاء تليفزيوني عن قناة السويس الجديدة في القناة الخامسة السكندرية، وقد اعتدت في أي لقاء أن أقوم بالتحضير الجيد، والذي ربما يستغرق شهرا، وذلك احتراما للذات واحتراما للجمهور، الذي أعمد أن أُسمعه حديثا غير مكرور إلا في بعض أجزائه التي لابد منها. وحين التحضير اطلعت على عدة مراجع جعلتني غضبان أسفا؛ لأنها سطرت مأساة دامية في تاريخ مصر ألا وهى "السخرة في حفر قناة السويس".

لقد فرط والي مصر "محمد سعيد باشا" في كثير من حقوق مصر حينما أعطى ديليسبس امتيازا بحفر القناة، ولم يرث الحكمة عن أبيه محمد علي باشا الذي رفض مشروع القناة إلا بشروط قاسية؛ ومنها: أن يكون المشروع بميزانية مصرية خالصة، ثم قال محمد علي بحكمته الثاقبة (أنا لا أريد أن أفتح على مصر بسفورا آخر)، إذ يشير إلى مضيق البسفور في تركيا، والذي جلب لها الأطماع الداخلية وأدخلها في نزاعات إقليمية، وهذا ما حدث بعد حفر قناة السويس؛ إذ جلبت الاستعمار البريطاني، وأفلست الخزانة المصرية، والعيب ليس في المشروع، ولا في القناة، ولكن في الامتيازات والقرارات الفردية السعيدية التي لا تستند إلى سياسة ولا مصلحة عامة ولا حتى الرجوع إلى الباب العالي في استانبول.

ولنقف على فصل كئيب من كتاب حفر القناة، والتي شاركت فيه كل الأسر المصرية بلا استثناء، حيث أن عدد سكان مصر في أواسط القرن التاسع عشر كان يبلغ خمسة ملايين نسمة، اشترك في الحفر منهم مليون نسمة أي خُمس سكان البلاد، قتل منهم 120 ألف نسمة بنسبة 2,4% من السكان، وهذا العدد من القتلى أقل بكثير من قتلى حروب مصر في العصر الحديث!!.

وسبب مصرع هؤلاء البؤساء أنهم يعملون في ظروف غير آدمية بنظام (السخرة) الذي أقره والي مصر، والمصطلح الأقرب للصواب هو نظام (الرق)، فقد كان العبيد يملؤن القصور في هذا الزمان، فالعمل في درجة الحرارة العالية والبرد القارس مع تقلب الفصول المناخية، بأجرة تتراوح بين قرشين وثلاثة حسب قوة البدن، إذ يتم جلبهم من كل أنحاء مصر عبر رحلة شاقة يستخدمون فيها الدواب، فيصلون منهكين إلى مدينة الزقازيق، حيث يتم "الفرز" هناك، وربما لا تتوافر وسائل النقل من الزقازق لمواضع الحفر فيقطعون عشرات الكيلو مترات مترجلين، والشركة لا توفر طعاما ولا شرابا، حتى أن شرط حفر ترعة المياه العذبة، لم يتم الشروع فيه إلا بعد سنوات من الحفر، وقبل ذلك كان العمال يموتون من العطش حين نفاد الماء المنقول بالصهاريج من مديريتي الشرقية والدقهلية، وربما وصل الماء ملوثا فانتشرت أمراض الإسهال والدوسنتاريا والكبد والرمد والنزلات الشُعبية والتيفود والجدري والكوليرا وغيرها من الأمراض التي كانت سببا في كثرة عدد القتلى. (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ) (آل عمران:6).

وشرع الوالي في إرسال 5000 جندي من الصعيد للقضاء على ظاهرة فرار العمال، وتبديل العمال المدنيين بعمال "ميري" ولكن الجنود قاموا بالتمرد حينما علموا بحقيقية الأجور المزرية وخسة المعاملة؛ فعدل الوالي عن فكرة تسخير الجند.

قال الشاعر:

نَظَروا إليكَ بأعينٍ مَشْزُورة ... نظَرَ التُّيوسِ إلى شِفارِ الجَاذرِ

خُزْر العيونِ نَواكِساً أذقانُها ... نظرَ الذَّليلِ إلى العزيزِ القادرِ

أحياؤُهم عارٌ علَى أمواتهم ... والميّتونَ مَسَبَّةٌ للغابرِ

ولما كان نظام السخرة يخالف الفطرة السليمة والآدمية المكرمة، فقد كان العمال يشرعون في الفرار والهروب وعدم العودة لقراهم، فتفتق ذهن الباشا للسيطرة عليهم أن أمر (مشايخ البلد) المسؤلين عن النظام في القرى أن يسافروا مع الأفواج ويعودوا معها لضمان الأمن في أماكن الحفر، ولكن مع فشل المشايخ تفتق ذهنه مرة أخرى لتعيين ضابط من البوليس هو (إسماعيل حمدي) والذي ابتكر استخدام الكرباج لجلد كل من يحاول الهرب، واتخذ من أحد البيوت سجنا للعقاب، وجعل عقوبة الجلد في مواقع الحفر؛ ألم أقل لك: إنه نظام (العبودية) بعينه؛ بل إن شئت فقل "الإرهاب" المبكر، ثم كانت جائزة هذا الجلاد أن أصبح أول محافظ لمحافظة (القنال) التي أنشأها الخديو إسماعيل بعد ذلك. وكان العمال يساقون مشيا إلى أماكن الحفر وهو موثقون بالحبال، نعم "موثقون بالحبال".

ومن كياسة دليسبس أن أوامره كانت صارمة لكل الفرنسيين والأجانب بالتلطف مع العمال المصريين، والنهى عن استخدام القوة، لتظل صورة "الخواجة" مقدسة عند المصريين، فالذل والإهانة لم تأت إلا من أبناء جلدتهم!!

وقام 10 آلاف عامل بحفر الترعة الحلوة، بنفس أدوات الحفر البدائية، ورغم أن الأرض مصرية والمياه مصرية والعمال الحافرين مصريون إلا أن الفكر الإمبريالي قرر بيع المياه لمن أراد استخدامها من المصريين في الزراعة أو غيرها، وأقر والي مصر هذه الفكرة الإمبريالية.

ولما ضج دليسبس من كثرة القتلى والفُرار فكر في جلب عمال من الدول الأوربية، ولكن هؤلاء العمال لم يتعودوا على القسوة والعمل بقرشين فأثبتت الفكرة فشلها، ومما ثبت في الوثائق أن العمال الذين أتوا من اليونان في نهاية عام 1866 كانوا سكارى سيئي الخلق لدرجة أن محافظ الاسكندرية أرسل إلى القنصل اليوناني يخبره بعدم استقبالهم، بل عليهم الذهاب مباشرة لأماكن الحفر، اتقاء نشر الرذيلة في مدينة الإسكندرية.

ووردت التقارير الفرنسية بأن 20 ألف عامل مصري يعملون بقوة 200 ألف فرنسي، أي أن العامل المصري بعشرة عمال فرنسيين؛ وهذه حقيقة تاريخية لمن أراد الاستثمار في الموارد البشرية المصرية التي تتميز جيناتها بالنقاء والشهامة والرجولة.

والخداع الديني حيلة إمبريالية معروفة يقع فيها السذج والدهماء، وقد احتال دليسبس تلك الحيلة فأوعز للصحفيين بالدعاية أن القناة مشروع إسلامي ؛ حيث أننا نعمل بقوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) (سورة الرحمن:9)، ثم استقطب رجالات الكنيسة المصرية بنفس أسلوب الخداع. وكان حريصا على حضور مفتي الديار المصرية وحضور البابا في كل مناسبة تتعلق بالحفر.

وقد أصيبت كثير من القرى ببوار الأرض الزراعية؛ إذ أن المركز الإداري في "المديرية" مطلوب منه توريد 20 ألف عامل شهريا، ومن ثم يكون مجموع من يتوقفون عن الزراعة في المركز 60 ألفا، حيث 20 ألفا في مواضع الحفر، و20 ألفا في طريق الإياب، ومثلهم في طريق الذهاب. ولم يُعف من السخرة إلا النساء والأطفال والبدو ورجال الدين والبلاد التي تقوم بزراعة الأرز في موسم زراعته فقط. 

واستمر الوالي سعيد باشا في نظام السخرة في تطهير الترع وإعلاء الجسور ثم السكك الحديدية، ثم أمد شركة ديسو الفرنسية لإصلاح السفن في ميناء السويس وفق نظام السخرة عام 1862. وقام بإغلاق المدارس العليا (الكليات) التي أنشأها والده محمد علي باشا، وقال بعد إغلاقها (أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة). 



الأستاذ الدكتور - عبد العظيم أحمد عبد العظيم

أستاذ الجغرافيا السياسية - قسم الجغرافيا- كلية الآداب - جامعة دمنهور- مصر

ـ بريـــد إلكترونــي: azeem0355@gmail.com





Share To: