نُكْرَاْنُ الْجَمَيْلِ صِفَةٌ قَبِيْحَةٌ وَعَاْدَةٌ رَذِيْلَةٌ | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف


نُكْرَاْنُ الْجَمَيْلِ صِفَةٌ قَبِيْحَةٌ وَعَاْدَةٌ رَذِيْلَةٌ | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
نُكْرَاْنُ الْجَمَيْلِ صِفَةٌ قَبِيْحَةٌ وَعَاْدَةٌ رَذِيْلَةٌ | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

 


اعلم أخي الكريم أن شكر النعمة من أسباب بقائها وزيادتها، وأن نكران الجميل سبب العقوبة وزوال النِّعَم.


إن نُكْرَاْنُ اَلْجَمَيْلِ، صِفَةٌ قَبِيْحَةٌ، وَعَاْدَةٌ رَذِيْلَةٌ، وَمَاْ أَقْبَحَهَاْ وَمَاْ أَرْذَلَهَاْ .


ولهذا مَن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فقد جاء في الحديث: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: 


مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ .


 رواه أحمد في مسنده 


نكران الجميل دليلٌ على ضعف الإيمان وسوء الأخلاق، وتجلب لِمَن اتَّصف بها الشقاء ونكد البال وسوء الحال.


نكران الجميل هو: ألا يعترف الإنسان بلسانه بما يقرُّ به قلبه من المعروف والصنائع الجميلة التي أُسديَت إليه.


اليوم تتفاجأ في حياتك بأصنافٍ من النَّاس تقدِّم لهم الجميلَ ثمَّ لا ترى منهم إلَّا النُّكران، وهذا الصنف أصبح ظاهرًا بشكل لافِت في هذا الزمان، همُّه مَصلحته ومَنفعته، فإذا ما انتهَت رأيتَ الصدودَ والجحود.


إنَّهم صنفٌ لا يَعرفون إلَّا مصالحَهم ومصالحهم فقط، ولا يَكتفون بنكران الجميل الذي تسديه إليهم، بل ربما أساؤوا إليك


ولهذا قال ربنا فى كتابه الكريم :


 ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ 


[البقرة: 237]


فمن قدَّم لك معروفًا فكافِئه، فقل له: جزاك الله خيرًا، أو على الأقل لا تقدِّم الإساءةَ إليه، فالنُّفوس الكريمة هي النُّفوس التي تَعرف لأهل الفضل فضلَهم، والنُّفوس النَّاكرة اللَّئيمة لا ترى للناس فضلًا.


إن الإقرار بالجميل مِن أندرِ ما يحدث بين الناس؛ فالأغلبية منهم لا يُقدرون الصنع، ولا يعترفون بالجميل، ومهما يكن من شيء فإن "الاعتراف بالجميل" ثمرة تربية وتهذيب وتكوين، وهو ما لا يمكن أن يوجد مصادفةً بين عامة الناس.


الله سبحانه وتعالى أمرنا في كتابه أن نعترف بالجميل لمن أسداه إلينا وذلك من شيم الكرام من الأنبياء والأولياء والأصفياء .


أمرنا الله أن نحسن إلى عباده كما أحسنوا إلينا فالجزاء من جنس العمل قال الله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾


 [القصص: 77]


وقال تعالى: 


﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾


 [الرحمن: 60]


وقال: 


﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ 


[النحل: 91]


والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن نشكر من قدم لنا معروفًا وأن نجزل له الثناء .


عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: 


لاَ يَشْكُر اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُر النَّاسَ .


أخرجه أحمد والبُخاري وأبو داود والتِّرمِذي وابن حِبَّان 


وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: 


مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ.


وفي رواية:


مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَمَنْ أَهْدَى لَكُمْ فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ .


أخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد وأبو داود والنَّسائي 


ومن صور الاعتراف بالفضل والجميل اعتراف نبي الله يوسف عليه السلام بعد أن أتم الله عليه النعمة ورد عليه أباه وإخوته يقول الله تعالى حاكيًا عن يوسف عليه السلام: 


﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي ‌مِنْ ‌تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ 


[يوسف: 101]


ومن جميل الاعتراف بالجميل ما ورد على لسان نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر الله تعالى له الجن والإنس والطير فهم يوزعون، وعلمه منطق الطير فلم يأخذه الغرور ولا الكبر حال كثير من الأغنياء والملوك بل اعترف بفضل ربه ومولاه جل في علاه قال الله تعالى:


 ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ‌وَقَالَ ‌رَبِّ ‌أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ 


[النمل: 18-19]


لم يغتر، ولم يفخر، ولم يفاخر، بل عرف حق النعمة واتجه إلى شكرها، ودعا ربه ثلاثا.


ومن مجالات الاعتراف بالفضل ورد الجميل أن يعترف الطالب بفضل الله أولا ثم بفضل معلميه الذين بذلوا الجهد من أجل تعليمه، ويكون ذلك باحترامهم وتوقيرهم والدعاء لهم، والحذر مِن الإساءة إليهم .


قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : 


ما صليتُ منذ مات شيخي حماد، إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لأَستغفر لمَن تعلَّمتُ منه علمًا أو علَّمته علمًا .


وقال أبو يوسف رحمه الله : 


إني لأدعو لأبي حنيفة قبْل أَبويّ .


وقال الإمام أحمد رحمه الله : 


ما بتُّ منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له .


وقال الشافعي رحمه الله : 


الحر مَن راعى وداد لحظة، وانتمى لمَن أفاده لفظة .


ومن مجالات الاعتراف بالفضل ورد الجميل ألا ينسى المرء من مد له يد المعونة ووقف معه أيام الشدائد والمحن وحبيبكم صلى الله عليه وسلم لم ينس المعروف لأحد من أصحابه ولم ينكره بل كان يتحدث بذلك ويثني عليه .


إن حِفظُ الجَميلِ خُلُقٌ جليلٌ بل هو من أخلاقِ الأوفياءِ الكِبارِ الذي لا ينسونَ المعروفَ ولو طالَتْ بهم الأعمارُ فلا يزالُ الكريمُ أسيرًا لصاحبِ الجميلِ يُظهرُ له الوِدَّ ويُمطرُه بالثَّناءِ الجزيلِ وأما اللَّئيمُ فهو يتجافى عن أصحابِ العطايا الكبيرةِ لأنَّه يظُنُّ أنَّهم إنما أحسنُوا إليه لمصالحِ الدُّنيا الحقيرةِ .


وصدقَ الشَّاعرُ:


إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ 


 وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا


إِنَّ لِنُكْرَاْنِ اَلْجَمِيْلِ مَضَاْرٌّ خَطِيْرَةٌ، وَنَتَاْئِجٌ مُرَّةٌ، مِنْ أَبْرَزِهَاْ:


 زَوَاْلُ اَلْنِّعَمِ، وَحُلُوْلُ اَلْنِّقَمِ ، يَقُوْلُ الله تعالى : 


 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ 


وَمِنْهَاْ :


أَنَّ نُكْرَاْنَ اَلْجَمِيْلِ دَلِيْلٌ عَلَىْ ضَعْفِ اَلْإِيْمَاْنِ، وَسُوْءِ اَلْأَخْلَاْقِ ، وَلُؤْمِ اَلْطَّبْعِ ، وفى اَلْحَدِيْثِ اَلْصَّحِيْحِ: 


أُرِيْتُ النَّارَ ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ ، يَكْفُرْنَ، قِيْلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ العَشِيْرَ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ .


فَلْنَتَّقِ اَللهَ وَلْنَحْذَرْ نُكْرَاْنَ اَلْجَمِيْلِ، وَلْيَكُنْ اَلْوَفَاْءُ عَاْدَةً لَنَاْ، وَصِفَةً نَتَّصِفُ بِهَاْ فِيْ مُجْتَمَعِنَاْ فَفِيْ اَلْحَدِيْثِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : 


سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم 

يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: 


مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى ، التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ ، وَتَرْكُهَاْ كُفْرٌ ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ .


فإياك إياك ونكران الجميل، واشكر صنائع المعروف، وكن من الأوفياء، فإن الكريم يحفظ ود ساعة. 


وأخيراً:


إن من مساوئ الخلال، وذميم الخصال التي حذرنا منها الإسلام نكران الجميل ؛ ونكران الجميل يتنافى مع طبائع النفوس السوية، التي طُبعت على حب مَنْ أحسن إليها، والتوقف إزاء مَنْ أساء إليها؛ ولذلك فإنه من الصعوبة بمكان أن يكون ناكر الجميل سوياً في نفسه أو مستقيماً في سلوكه وطبائعه؛ ما ينعكس بالدرجة الأولى على ذاته وشخصيته وعلاقته مع غيره، فينفضُّ الناس من خدمته بعد أن يكتشفوا حقيقة مرضه الدفين في نفسه.


واعلموا أن ممَّا يَشُقُّ على النفوس أن يُقابَل الجميلُ بالنكران، ويقابلَ المعروفُ بالأذى، والتنكُّرُ للمعروف يدلُّ على لؤم الطبع، عافانا الله وإيَّاكم من كل خُلُق ذميم.


ونكران الجميل دليل على خِسَّة النفس ، ولؤم الطباع  ، وسوء الأخلاق ، إذ النفوس الكريمة لا تعرف الجحود ،ولا النكران، بل إنها على الدوام وفية ،معترفة لذوي الفضل بالفضل ، فحين لا يقر الإنسان بلسانه بما يقر به قلبه من المعروف والصنائع الجميلة التي أسديت إليه ،سواء من الله ،أو من المخلوقين ، فهو منكر للجميل ، وجاحد للنعمة ، والكرام يزيدهم الإحسان وفاءً ، واعترافًا بالجميل ، واللئام لا يزيدهم الإحسان والمعروف إلا تمردًا  .


ويجب علينا الوفاء ، وحفظ الجميل لكل مَن له علينا معروف، والحذر مِن نكران الجميل؛ فإنه خبث في الطبع، وحمق في العقل .


 قال الله سبحانه وتعالى : 


وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ


 (النحل:91-92)


وقال بعض العقلاء: 


تعلموا أن تنحتوا المعروف على الصخر، وأن تكتبوا آلامكم على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها .





Share To: