حياة الظل وتآكل الروح بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة 


حياة الظل وتآكل الروح بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
حياة الظل وتآكل الروح بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة


وكيفَ للنَّبعِ الصَّافي أنْ يُبرِّرَ صفاءَهُ للماءِ الآسنِ؟ وكيفَ للسَّيفِ القاطعِ أنْ يُثبِتَ مضاءَهُ للخَشَبِ الهَشِّ؟


أيا من تحترفُ الخداعَ، ألا تُدرك أنك 

أوَّلُ ضحاياهُ. أيا من تنسُجونَ حولَ أنفسِكم هالةً مِنَ النَّقاءِ، كأنَّكم مُعصومونَ مِنَ الدَّنسِ، بينما تتراكمُ خطاياكمُ فى صدوركم حتى ينطق لسانكم بما فى قلوبكم ، فاللسان مرآة القلب.


تتحدَّثونَ عنِ العدلِ! كيف وهداكم ليس إلا ميزانٌ مائلٌ، لا يرى إلَّا كفَّةً واحدةً، فإنْ أخطأتم، كانتْ زلَّةً تستوجبُ الغُفرانَ، وإنْ أخطأَ غيرُكم، كانَ جرمًا لا يُغتفرُ. تدَّعونَ الحكمةَ، لكنَّ عقولَكم كمرآةٍ غائمةٍ، لا تعكسُ إلَّا ما تريدونَ رؤيتَهُ.


محاطون نحن بمن يجلدوننا ويجلدونَ الآخرينَ بسياطِ النَّقدِ، لكنَّهم يحيكونَ لأنفسِهم أثوابَ الفضيلةِ مِنْ خيوطِ الوهمِ. إنْ واجهتَهم بالحقيقةِ، أصمُّوا آذانَهم، وإنْ واجهوكَ بالبهتانِ، أيقنوا أنَّهُ الحقُّ. يتغذَّونَ على تقزيمِ غيرِهم، ليسَ لأنَّهم عظماءُ، بل لأنَّهم لا يحتملونَ رؤيةَ أحدٍ يرتفعُ فوقَ قامتِهم الهزيلةِ.


يُشبِهونَ ظلًّا يتراقصُ خلفكَ، لا تراهُ إلَّا حينَ تسيرُ في النُّورِ، لكنَّهُ يختفي حينَ تُواجهُهُ. يعكسونَ عيوبَهم على غيرِهم كما تعكسُ المرآةُ صورتَها المقلوبةَ، فإنْ مدحتَهم أغرقوكَ بحلاوةِ اللِّسانِ، وإنْ كشفتَ زيفَهم، مزَّقوكَ بأنيابِهم كما تفعلُ الضِّباعُ حينَ تستشعرُ خطرَ الانكشافِ.


إنَّهم كَمَنْ يَحفِرُ بئرًا في الرَّملِ، يُرهِقُ نفسَهُ بلا طائلٍ، ثمَّ يَلومُ الأرضَ على جفافِها. فإنَّ الجائعَ إلى الوهمِ لا يَشبَعُ، والعَطشانَ إلى الزَّيفِ لا يَرتوي، والسَّائرَ في العَتمةِ لا يَلتفِتُ إلى الشَّمسِ حتَّى يَضِلَّ طريقَهُ تَمامًا.


فهل يَهتز جبلُّ لأنَّ الرِّيحَ عابثةٌ، أو يَلتفِتُ لأنَّ الصَّدى فارغٌ! لا تُخبِرْهُم مَنْ تَكونُ، فإنَّ الشَّمسَ لا تَكتُبُ بَيانًا كي تُقنِعَ الأرضَ أنَّها تُشرِقُ كلَّ يومٍ، ولا البحرُ يُبرِّرُ مدَّهُ وجزرَهُ لمَنْ لا يَفهَمُ لُغتَهُ.


إنَّ السَّماءَ لا يُطفِئُها دُخان. فقط كن مُنسابًا كالماء في جريانه، لا يقيّده قالب، ولا تحدّه أسوار. لا تتقمّص وجوهًا مستعارة، ولا تُرهق روحك بالتزييف، فالعالم مليء بأشباح تتنكر في هيئة بشر، وأنت لست منهم. أرتقى فالقاع ممتلىء.


كن كالشمس حين تشعّ، لا تأبه لمن يشتكي من حرارتها، ولا لمن يُغمض عينيه أمام نورها. كن كالريح، تمرّ حيث تشاء، لا تُساوم، لا تتكلف، لا ترضى أن تُحبس في زجاجة التوقعات الباهتة.


لا تُناقشْهُم، فالنِّقاشُ معهم كنَفخِ الرِّيحِ في رمادٍ باردٍ. ولا تُحاوِلْ إيقاظَهم، فالنَّائمُ قد يَستيقظُ، أمَّا المُتغافلُ عنْ عَمدٍ، فقدِ اختارَ الظَّلامَ مَهْدًا لهُ.

سِرْ في دَربِكَ، واترُكْهُم في متاهاتِهم، فإنَّ الرِّيحَ لا تُعاتبُ الغبارَ، والموجَ لا يُحاورُ الزَّبدَ، والسَّماءَ لا تَنحني كي تُثبِتَ للأعمى أنَّها زرقاءُ.


فليس لزامًا أن تحمل وجوهًا لا تشبهك كي يرضى عنك من لا يراك إلا كما يريد. تقبّل الناس ما دامت أرواحهم لا تعكر ماء نقائك، وما دامت عيوبهم لا تُدنس شرف المبدأ ولا تُفسد نقاء السريرة. أما الخِسّة، والنكران، وقلة الأصل، فهي عيوب لا تصلح إلا للمهملات، لا للتسامح ولا للغفران. فلا تطلب من غيرك أن يكون ملاكًا، لكن لا تقبل بمن يسير على جناح الغدر ويحسبه فضيلة.


لا تكن رقماً في معادلة وضِعت قبل أن تولد. اصرخ إن شئت، ارقص إن طاب لك، ابكِ إن اختنقت روحك، واضحك حتى تتردد أصداء ضحكتك في جنبات السماء.


إن ارتجفت الأرض تحت قدميك، فاثبت كما تثبت الجبال، وإن لوّحت لك العيون بنظرات لا تفهمك، فابتسم، لأنك وحدك تفهم ذاتك. لا تسجن جوهرك داخل قفص التوقعات، ولا تضع نفسك في قوالب ضيقة لا تتسع لروحك.


كن أنت، كما أنت، بلا تعديل، بلا تحسين، بلا مساحيق تخفي ملامحك الحقيقية. فثمة من يبحث عنك كما أنت، لا كما يريدك الآخرون أن تكون.


اتعلم يا صديقى حين أنظر إلى الطريق، أجده هو أيضا ينظر لى، بلا أعين، بلا ملامح، لكنه يفهمنى أكثر مما فهمت نفسى يومًا. يمتدّ أمامى كأنه شريان الزمن، ينبض بمحطاتٍ لم يعد يذكر إن كان مرّ بها، أم مرّت به. كل انحناءة فيه تشبه التواءات روحى، كل منحدرٍ يفضح سقوطًا نسيت كيف نهضت منه، كل جسرٍ أعبره يذكّرنى بجسورٍ تهاوت خلفى، ولم أجرؤ على الالتفات.


في زجاج النافذة، لم ارى وجهى، بل رأيت نسخةً منى تراقبنى من الداخل، تسألنى بصمتٍ مستفهمٍ: "متى أصبحتَ هذا الذي أنت عليه؟" لم أجد إجابة، فالطريق وحده كان يعرف.


همس لى الطريق، بصوتٍ لم يكن صوتًا، بل إحساسًا يتسلل بين أنفاسه:

"ألم تفهم بعد؟ لستُ أنا من يمضي، أنت الذي تراني أتحرك بينما الزمن يسرقك مني. كنتَ تظن أنني أرضٌ صامتة، لكنني أنا الذي سجّلت خطاك، أنا الشاهد الذي لا يكذب، أنا السرّ الذي لن تفرّ منه."


أشجارٌ وقفت على جانبي الطريق كحراسٍ عجائز، تعرفنى منذ كنت طفلًا، منذ كنت أسير ولا أخشى أن أسقط، منذ كنت أؤمن أن الطريق لا نهاية له، حتى اكتشفت أننى أقصر مما ظننتّ. بيوتٌ بعيدة تلوّح لى، ليست بيوتًا، بل ذكريات تنادينى، أصدقاء رحلوا، وجوه لم أعد أعرف إن كانت حقيقةً أم محض حلمٍ تآكل مع السنين.


سألته، وكأنى احاول التفاوض مع شيءٍ لا يخضع للتفاوض: "إلى أين تأخذني؟" ضحك الطريق، كانت ضحكته باردةً كريحٍ تتلاشى في الفضاء: "إلى حيث كنت تسير منذ ولادتك. لا وجهة لي، أنت الذي حملتني في داخلك وظننتني خارجك. كل خطوةٍ خطوتها لم تبتعد فيها عني، بل اقتربت مني أكثر. لستُ طريقًا، أنا مرآتك التي كنت تفرّ منها، وظلّك الذي ظننته خلفك، لكنه كان أمامك منذ البداية."


نظرت إلى الأمام، إلى الطريق المنساب بلا بداية ولا نهاية، وشعرت للمرة الأولى أن القطار، الطريق، الريح، كل ذلك لم يكن يتحرّك... بل كان الزمن هو الذي يدور حوله، ككوكبٍ يحاول الفرار من مداره لكنه يعود إليه في كل دورة.


أدركت فجأة الحقيقة التي هربت منها طوال حياتى: لم يكن الطريق هو الرحلة




Share To:
Next
This is the most recent post.
Previous
رسالة أقدم