فقه النظر بين ظاهر النص وعمق المعنى | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش
![]() |
فقه النظر بين ظاهر النص وعمق المعنى | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش |
في قاعة الدرس، حيث تتلاقى العقول الباحثة عن نور العلم، كانت محاضرتنا في هذا اليوم تدور حول "أحكام النظر" ضمن موضوعات الأحوال الشخصية. بدأت المحاضرة بسؤال أردت به تحفيز الفكر وإثارة النقاش:
"ما حكم نظر المرأة إلى الرجل والعكس؟"
وما إن أنهيت سؤالي حتى ارتفعت يد طالبة بسرعة لافتة، وأجابت بحماسة وثقة:
"حرام يا دكتورة! النظرة الأولى لنا والثانية علينا، كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:
(يَا عَلِيُّ، لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ) رواه الترمذي (2701)، وهو في صحيح الجامع."
في تلك اللحظة، عادت بي الذاكرة إلى حيرتي القديمة في فهم هذا الحديث الشريف. تساءلت في نفسي:
"هل أباح الشرع الحنيف النظرة الأولى، التي تُسمى نظرة الفجاءة، وحرّم الثانية؟!"
سبحان الله… لقد عشت فترة من حياتي في قرية صغيرة، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضًا؛ رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا. أعرف أولاد عمي، وأبناء خالتي، وجيراني. فهل انطبعت صورهم في ذاكرتي من مجرد نظرة أولى عابرة؟ بالطبع لا.
نخرج يوميًا إلى العمل، نلتقي بأشخاص كُثُر في الطريق، وقد تتقاطع وجوهنا معهم مرارًا دون أن يظل لهم أثر واضح في ذاكرتنا من نظرة واحدة. إذًا، هناك بُعد أعمق لهذا الحديث النبوي الشريف.
ليس المقصود بالنظرة الثانية مجرد تكرار النظر ذاته، فهذا أمر يصعب ضبطه عمليًا. إنما المقصود بالنظرة الثانية: النظرة التي تحمل في طياتها معنى آخر، نظرة تتجاوز الفجاءة إلى قصد التأمل، فتفتح باب الفتنة وتحرك الشهوات.
التفتُ إلى طالبة بلطف، وأردت أن أوجه فهمها للنص بنظرة أعمق وأكثر واقعية. قلت لها برفق:
"هل لديكِ أستاذ من الرجال هذا الفصل الدراسي؟"
قالت: "نعم."
سألتها: "من هو؟"
قالت: "الأستاذ الدكتور فلان."
قلت: "لو رأيته خارج أسوار الجامعة، هل ستعرفينه؟"
قالت: "نعم."
تابعت: "هل تعرفين الشيخ الشعراوي؟"
قالت: "نعم."
"وماذا عن الدكتور مصطفى محمود؟"
قالت: "نعم."
واصلت طرح أسماء شخصيات عامة وأخرى من الأقارب والجيران، وفي كل مرة كانت تجيب بثقة:
"نعم."
فقلت لها:"كم مرة رأيتِ هؤلاء الأشخاص؟"
قالت: "مرات كثيرة."
فقلت بابتسامة هادئة: "لو كانت النظرة الثانية حرامًا كما قلتِ، فماذا عن الثالثة والرابعة والخامسة…؟! ألن تكون أشد حرمة؟!"
ساد الصمت، وكأن الفكرة قد بدأت تترسخ في ذهنها من زاوية جديدة. رأيت في عينيها بريق التفكير العميق، وكأنها تعيد النظر في قناعاتها.
فقلت لها بلطف: يا ابنتي، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾
﴿ وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30-31]"
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين غض البصر وحفظ الفرج، وهذا الربط يدل على أن المطلوب هو غضّ بعض البصر، أي البصر الذي قد يؤدي إلى الفتنة أو يثير الشهوة، وليس حجب النظر بشكل تام عن كل شيء. فغض البصر ليس إغلاق العيون، بل هو كفّ النظر عن ما يُخشى منه الوقوع في الحرام.
وما عدا ذلك فهو مباح بضوابط:
تجنّب الاسترسال في النظر.
والاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة.
وهذا من رحمة الشريعة الإسلامية وتيسيرها على الناس، فهي لا تكلّفهم بما فيه مشقة أو حرج. فمن غير الممكن أن نغض أبصارنا تمامًا عن كل من حولنا، خاصةً بين الأهل والأقارب وفي الحياة اليومية.
إذًا، الممنوع شرعًا هو "النظرة الثانية" بمعناها العميق المرتبط بالفتنة، وليس "المرة الثانية" من حيث العد.
والله تعالى أعلى وأعلم.
Post A Comment: