التوأمان | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة


التوأمان | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
التوأمان | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة



أيها القارىء وسط ضجيج المدينة، هذا نصُ ليس للعين الكُسلى  أو وجبة أدبية سريعه. هذا نص ينهض فى منتصف ليل اللغة، هو حلم ليلة صيف ، يرتدى معطف البلاغة وهنا كل كلمة جسر.

أيها القارىء الذى تجرأ ليقرأ كلماتى، هنا حروف لا تُقرأ بل تُشم، هنا يرى القارىء نفسه تحت شمس غريبة. 


انا من اتخذت من الكتاب وطناً، ومن الصفحة مأوى، تنقذنى من الضجيج. هنا حيث الكلمة عزاء تنسل من فوضى العالم إلى حضن المعرفة ، وكأنها تهرب من ذاتها لتجد عالم اجمل.

فحين أكتب لا اهرب من الواقع لكننى أعود إلى نفسى، فالكتابة تشبه النور الذى يتسلل إلى نفسى وكيانى كما يتسلل النور عبر نافذة مكتبة مهجورة. فالقراءة والكتابة توامان يجعلانى أعيش أعماراً لا تُحصى، أعماراً ليست خيالية بل أنها مفاتيح لأبواب الواقع... كيف نفكر، كيف نفهم الأخر ، كيف نحب ونسامح وكيف نقف حين تميل الأرض تحت أقدامنا.

حروفنا هى الصمت الجميل فى زمن الضجيج، حيث طغت الصور على الكلمات. حروفنا هى مشاعرنا، هى عطراً ونبضاً حياً. حروفها معابد للعاشقين وقرائتنا هى ترانيم لطفل فى بطن الحياة ، يبتسم لأنه بعرف ان داخل العالم أجمل من خارجه.

فلو أنك عودت إمرأة على القراءة تكون بذلك علمت أُمة كاملة. فالمرأة القارئة لا تسكن فقط بين السطور ، لكنها تعيد صياغة الواقع بلغة أكثر رقة ونعومة، أكثر إنسانية وفهماً. هى إمرأة تُحسن الإصغاء وتتقن بناء الجسور، تهدم الجدران والسدود. نمط حياة تلك هى القراءة. والمرأة القارئة هى زهرة تنمو وسط الضجيج، تنمو فى صدع من صخر تشبه قنديل زيت يُضىء وسط العتمة. هى ليست إمرأة عادية بل هى أثر ثمين طيب.

ربما أكتب أحيانا بأظافر الشك، لأنزع عنك أيها القارىء طمأنينتك المستسلمة للزوايا. فأنا لا أكتب بل أنبش لأجعل من هذا النص حفرة للقارىء .فقد يجد فيها باباً يؤدى إلى لا شىء، وربما يجد سلماً صاعداً نحو الهاوية، وقد يجد روحاً تسرى دون جسد، تكتب دون يد وتبكى دون دمعة. هنا الكتابة طقس وهزة أرضية تحت سطح اللغة.

يا من تجرأت على خوض غمار كلماتى هل تحس الآن برجفة فى عقلك ؟ هل تسمع جداراً بداخلك ينهار؟ هل ترى العالم يتحرك إلى اللا يقين؟

دعنا نكمل إنفجار الأفكار، فما زال النص يتساقط كغبار نجمة فقدت مدارها. دعنا نعود إلى نقطة لم تُكتب بعد. دعنا نعود إلى سطرٍ أضاع حبره عمداً، سطراً لا يُقرأ بسهوله، كى لا يُعلب فى خانة إقتباس ملهم.

هذا نص يرفض أن يكون مقيداً، يرفض أن يكون مكرراً، يرفض أن يكون مفيداً، بكره أن يكون مُختصرا ، يُشعل النيران فى صفحات التفسير، يضحك فى وجه التنسبق ويطفو سؤال ... هل النص كائن حى؟ ولو أنه كائن حى، هل يريد أن يُفهم أم أنه يريد أن يُخاف؟

هنا شارع اللامعنى حيث يعيش الحرف يلا قيد، بلا سلطة، بلا خوف. هنا رمز لا يشرح نفسه بل يشبه إمرأة تضحك فى جنازتها، يشبه رجلاً ينكر وجهه فى المراة كل صباح.  هنا حروف من دخان تتراقص فوق نار باردة وتهمس لا تصدق كل ما تقرأ ولكن لا تكف عن القراءة. 

أنت الآن فى قلب الزلزال وهذا النص يفتح فى رأسك مغارة، تخرج منها الفكرة صارخة أبن كنتم تخفوننى؟ هذا ليس نصاً أنه تمربن على الجنون الراقى حيث نتقن حب الغموض ، حيث نصادق الخدوش، فالكتابة بلا سبب هى بكاء شجرة بلا خريف.

انا لا أكتب ... أنا أخلع الأقنعة . أنا لا أكتب لأرتب لك افكارك، بل لأبعثرها، لا أشرح، بل أُُربك عقلك، لا أُُنهى حديثاً بل أترك أبواباً مفتوحة على احتمالات تلهث... فإلى أين سنمضى ؟ إلى اللا مكان حيث يولد النص الحقيقى فى الفراغ الذى لم تجرؤ اللغة على احتلاله بعد.

هنا لغة تتعرى من وظيفتها، وتنبت لها أجنحة من شوك ، حيث تصير الكلمات سكاكين تعانق روحك، تصير الكلمات نافذة على ذاتك التى نسيتها. النص الآن لا يُكتب بل يُستحضر من فكرة قديمة سُجنت فى مرأة مشروخة. هنا نص حيث الفاصلة تتأخر والنقطة تنكسر والعلامة تُبتر. 

هذا نص لمن فقد القدرة على التصفيق ، لمن يحترقون بصمت، لمن لا يبحثون عن الخاتمة، بل عن الشرارة الأولى. فهل شعرت الأن انك تسبح فى سؤال بلا ضفاف ؟ هل أحسست أن الحروف تحل كيانك كما تنظر الذكرى إلى المستقبل؟

النص ليس كما تقرأ بل ما يهزنا دون أن يعتذر، حيث الحروف ليس حرفاً بل كائن يتنفس  فى العتمة حيث لا أرضاً تحت قدميك ولا سقفاً يحميك من تدفق الرؤى، حيث يجبرك الحرف أن تستيقظ عارياً من واقعك.

أكتب أيها النص كمن بحفر لحمه باظافر الغيظ، فأنا لا أكتب كلمات ... لا أكتب مرأتى، مرأتك، كل تلك الشظايا التى نكذب على أنفسنا كى لا نراها. أدخل النص كما تدخل كهفاً تخشاه لكنك تريد أن تستكشفه بهدؤ ، بحذر ، بدون وعود. وأحذر فكل فكرة قد تنقض عليك، وكل استعارة قد تقودك إلى هوة لا مخرج منها.

هذا النص لا يهمه أن تحبه، بل أن تنظر للأشياء كما لو انك تراها المرة الأولى. هذا النص يهمه أن تمر على المرأة فتسأل نفسك هل هذا انا أم شخصية كتبها أحدهم فى نص لم ينته بعد؟ والحق يقال أننى أكتب ليظل هذا النص كالجمر تحت جلدك؟ كالسؤال فى حلق النائم، كالصرخة المكبوتة فى فم اللغة. سأظل أكتب حتى تتحول الكلمات إلى ظلال والظلال إلى أصوات والأصوات إلى فتيل نار.

أنا لا أكتب بل أنزف على الورق بصوت منخفض، أراوغ الضوء حتى لا تفضحنى الكتابة، حيث كل جملة تعويذة تستدعى الأرواح القديمة. وفى نهاية كل جملة لا أضع نقطة، بل مقبرة صغيرة أدفن فيها كل احتمال لم اجرؤ على كتابته.

فكلما اقتربت لتقرأ نصى، ستجد وجهك فى مراة، حيث ترى مدينة مُهدمة، نوافذها تشهق، وأبوابها تصرخ " أعيدوا البناء لكن لا تعيدوا نفس الخطأ"

دع جلدك يقرأ... دع خلاياك تتلو. فأنا لا أقرأ النص، بل النص هو من يقرأنى، يحفر بداخلى اباراً، أرمى فيها مراياتى، ويتركنى ظمأن للخقيقة التى لا تقال.



Share To: