لا نامصة ولا متنمصة ولكن !!! المسألة فيها سعة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
|  | 
| لا نامصة ولا متنمصة ولكن !!! المسألة فيها سعة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة | 
من الأخطاء العلمية الشائعة عند تناول مسألة فقهية أن نُصدَر للقاريء قولاً واحداً طوال الوقت دون التنبيه أو الإشارة إلى وجود أقوال أخرى في المسألة فيهيئ للقاريء أن المسألة ليست خلافية فترتفع عنده من درجة الفروع التي تتسع للرأي والرأي الآخر إلى درجة الأصول المقطوع بها ، وهذا ماكنت أعتقده في مسألة نمص الحاجبين ، فوجدت أن القول المتصدر للفتوى هو القول بالتحريم المطلق بل لو وضعت السؤال على محرك البحث لظهر لك الحكم الذي يقطع بالحرمة ، وعند مراجعة مصادر أهل العلم وتناولهم للآية القرآنية ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في المسألة تبين لي ، أن المسألة فيها خلاف واسع بين أهل العلم ، ليس بين المذاهب الأربعة فقط بل بين فقهاء المذهب الواحد حتى ورد عند الحنابلة خمسة أقوال في المسألة ، تصدَر الفتوى منها القول بالتحريم المطلق ، ولا أدري علة لذلك ! ، بل لا أبالغ إن قلت اشتمل التحريم أخذ المرأة الشعر من سائر وجهها حتى ولو ظهر لها شارب ؟! أو عنفقة ( ذقن ) !!؟؟ .
فآثرت أن أقدم لمحة موجزة عن اتجاهات أهل العلم في المسألة ، مستنيرة بمجهود أهل العلم قديماً وحديثاً ، سائلة المولي عز وجل أن ييسرها لي ، وأن يجلي لي فيها وجه الصواب ، وما تطمئن إليه النفس ، مستعيذة به سبحانه من أن أقول في دينه بغير علم ، أو أُحل ماحرمه سبحانه ، أو أحرم ما أحله سبحانه وتعالى ، ورأيي في المسألة بعيداً عن شخصي ، فكما قلت لطالباتي قبل ذلك عند الحديث عن المسألة : ( لست بنامصة ولا متنمصة لا في الماضي ولا في الحال ولا في المستقبل بإذن الله تعالى ؛ وذكرت لهن علتين في ذلك : الأولى : أنني ربما بطبيعة الخلقة لم أحتاج إلى ذلك بفضل الله تعالى، والثانية: لم يطلبه زوجي مني على الإطلاق ، فهل للعلتين علاقة بالمسألة ؟ فقد تتعرض المرأة لحاجة ملحة أو ضرورة طبيعة الخلقة إلى أن تفعل ، أو بأمر الزوج ، فهل في المسألة وجه تيسير ، وهل فعلها بأمر الزوج طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟ ، ولو فعلت ماهي الضوابط الشرعية لذلك ، وهل يلزمها ارتداء النقاب بعد الفعل ؟
أقول : بالنظر إلى أقوال أهل العلم وجدتها تنحصر في أربعة أقوال :
الأول : التحريم المطلق به قال عبد الله بن مسعود ، وقتادة ، وهو رواية في مذهب الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وبه قال جمع من المعاصرين .
واستدلوا بقوله تعالى : ( وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ) النساء ١١٩، وقالوا أن الآية واردة في النمص .
وأيضاً ظاهر حديث ابن مسعود الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله النامصة والمتنمصة ....." ، وهذا القول رأي في المذاهب الأربعة وكما قلت قبل ذلك لم يحرموا نمص الحاجبين فقط بل قالوا أن النمص وهو أخذ المرأة من شعر وجهها مطلقاً .
الثاني : الإباحة المطلقة به قال بعض الحنفية : وعللوا ذلك بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوراً على وقت كانت الفاسقات هن من يفعلن ذلك لاستمالة الرجال إليهن ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمات من فعله لعلة التشبية ، وحملوا الآية القرآنية الكريمة " فليغيرن خلق الله " بأن المنهي عنه شرعاً هو التغيير الدائم لخلق الله ، أم النمص فهو تغيير مؤقت يشبه تحمير الوجه ، وهو مباح خاصة إذا كان للزوج .
الثالث : الكراهة التنزيهية لا التحريمية : أي تثاب من تتركه ولا تأثم من تفعله ، وهو قول عند الحنابلة إلا إذا كان شعاراً للفاسقات فيحرم ، لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في ذلك مع اعتبار تأويل أهل العلم له .
الرابع : الإباحة بقيود : وانتصر لهذا القول جمهور المالكية ومحققي الشافعية ورأي عند الحنفية ورواية للحنابلة ،وهذه القيود هي :
1- ألا يكون شعاراً للفاسقات نص عليها الحنفيه ، حيث كن يعرفن به في الجاهلية لدعوة الفساق إليهن هو التعليل المناسب للحكم، ومعلوم عند الأصولييين أن من مرجحات الوصف الظاهر المناسب المنضبط لا يكون صالحا لكونه علة للحكم إلا إذا ترتبت عليه مصلحة حقيقية او اندفعت به مفسدة غير وهمية . .
وظاهر لنا أن هذا الوصف (أي كون النمص شعار للفاجرات ) ترتبت عليه مفسدة حقيقية غير وهمية، وهي فاحشة الزنا والعياذ بالله تعالى. ومما يرجح هذه العلة على غيرها المرجحات التالية:
أولا : من المعلوم عند علماء نقد متن الحديث أن ورود حديث يحمل في نصه شدة وقوة كاللعنة والغضب والتهويل بالعذاب الأليم، ينبغي أن يناسب الفعل الصادر من المكلف، ولذلك يقول العلماء : الجزاء من جنس العمل، أي العقوبة تتوافق مع الجريمة..
ثانيا : إذا نظرنا إلى الفعل الذي تقوم به هذه النسوة لمجرد النمص والتجمل بتحسين المظهر الذي طلبه الشارع من المرأة لزوجها أو بحكم مافطرت عليه المرأة من حب التجمل ، لا يستحق هذه اللعنة والسخط، فلزم أن يكون الأمر شيء آخر عظيم مناسب لللعنة والغضب وهو اقتراف إحدى الكبائر وهي الزنا. .
ثالثا : وإذا قلنا بأن النمص ممنوع مطلقا لانتقض علينا بمسألة تشقير الحواجب التي ظهرت حديثا ويجيزها كثير من العلماء ، وهي تعطي نفس وظيفة النمص أي ترقيق الحواجب، وفي ذات الوقت ليست هي بنمص بالاتفاق؛ لأنها عبارة عن صبغ شعيرات الحواجب الزائدة عن الحد المطلوب، والصبغ جائز بلا خلاف .
2- أن يكون بإذن الزوج وله ، نص على هذا القيد الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في رواية أخرى ، فإذا كان في وجهها شعر يؤدي إلى نفور زوجها عنها جاز لها إزالته، وكذلك يجوز لها إزالة ما نبت في وجهها من لحية أو شارب أو نحوه، بل يستحب لها ذلك، وكذلك يجوز لها الأخذ من الحاجبين وشعر الوجه ما لم تتشبه في ذلك بالمخنثين ؛ وذلك لأن الزينة للنساء مطلوبة للتحسين ، والتعليل بعلة التغيير لخلق الله عند المالكية متعلق بتفليج الأسنان ولا يتجه إلى باقي المنهيات من الوصل والنمص والوشم..
3- ألا تكون المرأة معتدة من وفاة نص علي هذا القيد المالكية ، فقد ورد عندهم أن الأصل في النمص الجواز للمرأة ؛ لأنه زينة تتزين بها للزوج كالكحل والصبغ والحناء والعطر، وتحريمه يكون بعارض وفاة زوجها حيث حرّم الشارع الكريم عليها إبداء زينتها فترة العدة وفاءً للزوج، فإذا خرجت من عدتها جاز لها ذلك إظهارا لانتهاء العدة حتى يمكن خطبتها والتزوج بها.
4- ألا يكون القصد من فعله استمالة قلوب الرجال أو التحريض على جريمة الزنا ، وهذه العلة نص عليها الحنفية فهنا تفريق الأحناف لذات الفعل بين كونه معمولا زينة للزوج أو للنفس وبين كونه تزينا للأجانب دعوة للمعصية.
5- التدليس على الخاطب لتكثير الصداق حيث يظنها صغيرة أو جميلة ، ونص على هذه العلة المالكية والشافعية ، ويمكن الاحتراز الغش والتدليس بالسؤال عن حال المخطوبة ومعرفة عمرها وهيئتها الحقيقية ممن هو مطلع على حالها من النساء..
6- أنها تغيير لخلق الله ، وهذه العلة ركز عليها كثير من المعاصرين، في حين لم يركز عليها الفقهاء المتقدمون إلا ماورد عن بعض المالكية .
وهذا استدلال غير سديد حيث فلم يذكر أحد من المفسرين أن سبب نزول الآية لهذا الغرض، بل فسروا كلمة خلق الله بأنها تعنى : دين الله ، أو خصاء البهائم ، وليس أجساد الناس كما يقوله بعض المعاصرين ، وبه قال أنس بن مالك ، وابن عباس ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وابراهيم النخعي ، وقتادة ، ومجاهد ، والثوري ، والطبري وغيرهم.
أما إذا نظرنا إلى علة كونها تغيير لخلق الله نجد أنها لا تصلح للتعليل حيث أجازت أكثر المذاهب النمص للمرأة بإذن زوجها، والتغيير لخلق الله حاصل لذات الزوج ولغيرها، وليس هنالك دليل يخصص ذات الزوج أو يستثنيها.
وينقل الشيخ العدوي عن الإمام شهاب الدين القرافي قوله :" لم أر للفقهاء الشافعية والمالكية وغيرهم في تعليل هذا الحديث إلا أنه تدليس على الزوج لتكثير الصداق ... وما في الحديث من تغيير خلق الله لم أفهم معناه، فإن التغيير للجمال غير منكر في الشرع كالختان وقص الظفر وصبغ الشعر وغير ذلك "
وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله النامصة والمتنمصة " فيحمل اللعن فيه على وجوه : إما أن تكون المرأة معتدة من وفاة وتفعل ذلك ، أو فعلته المتزوجة بدون إذن زوجها ، أو كان ومايزال النمص شعاراً للفاسقات وقلدتهن ، أو أرادت بفعلها ذلك استمالة قلوب الرجال ذريعة للمعصية.
بعد هذا الموجز يظهر لي - والله تعالى أعلى وأعلم - أن المسألة عند فقهاء المذاهب ليست كما يصورها لنا المتصدرون للإفتاء في عصرنا، فهي معللة بعلل شرعية قد اختلفوا في تخريج مناطها وتنقيحه .
والخلاصة : أن كثيرا من العلماء يرى الرخصة للمرأة في أن تزيل شعر وجهها، وكذلك الشعر الزائد المتطاير عن الحاجبين، بشرط أن يكون الحامل لذلك التزين للزوج أو لنفسها ، لا للغير من الرجال ، وأن النمص المحرم هو إنهاك الحواجب، والمبالغة في ترقيها حتى تصير كالقوس كما قال بعض الشافعية ، او تشبه فعل المخنثين، وفي ذلك رخصة لمسألة عمت بها البلوى " .ومن العلماء من جعل النهي خاصا بالمرأة المنهية عن استعمال الزينة، كالمتوفي عنها زوجها، بدليل ما ورد عن عائشة رضي عنها من جواز إزالة الشعر من الحاجب والوجه، ؛ ولأن التغيير في الخلق للجمال غير منكر في الشرع كما قال أهل العلم ، إذا لم يكن فيه تدليس وذلك كالختان وقص الشارب، وإزالة الشعر، والظفر والصبغ بالحناء والاكتحال وغير ذلك .
وقد يسأل سائل : إذا ثبت لنا صحة هذه التحليل لموضوع النمص فهل يجوز للمرأة وقد نمصت حواجبها أن تخرج بها على الناس دون نقاب؟
نقول يجوز لها الخروج دون نقاب استدلالا بالقياس التالي:
يمكن قياس خروج النامصة دون نقاب على أقوال بعض الصحابة الذين أجازوا للمرأة أن تخرج بالكحل في عينيها وعدوا ذلك مما ظهر منها، ومعلوم أن زينة العين بالكحل أكثر جمالا وافتتانا بالمرأة من النمص، فيكون القياس أولوي ، بمعنى إذا جاز الكحل مع قوة تأثيره ولفت الأنظار إلى المرأة فمن باب أولى جواز الخروج بالنمص لأنه أقل تأثيرا .
وكذلك هنالك قياس آخر على جواز خروج المرأة وهي خاضبة يديها، بل ورد حديث عن طلب الرسول من إحدى النساء وهي تبايعه ويداها غير مخضبتين ، فأمرها أن تخضب يديها، وهو أيضا قياس أولوي . والله تعالى أعلى وأعلم .
.الراجح : أقول أولاً : الأولى للمرأة المسلمة أن تترك نمص الحاجبين خروجاً من الخلاف الواسع للعلماء في المسألة ، ولظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنهما خاصة إذا كانت لا تحتاج إلى ذلك بطبيعة الخلقة خاصة البنات ، أو لم يطلب منها زوجها ذلك إذا كانت متزوجة ، وإلا فالراجح هو ماذهب إليه أصحاب القول الرابع القائلين بجواز الأخذ من الحاجبين بإذن الزوج ، وأن اللعن الوارد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه محمول على ما إذا فعلته المرأة لتتزين للأجانب بقصد استمالة قلوب الرجال ، لأنه لو كان في وجهها شعر ينفر زوجها عنها بسببه ، ففي تحريم إزالته تعسف ، وهذا الجواز عندي مقيد إضافة إلى إذن الزوج ، بأن لا يكون تطريف ولا ترفيع ولا تدقيق ، ولا حذف ، وإنما إزالة المتطاير فوق وتحت الحاجبين ، هذا إذا لم يكن بالحاجبين غلظ واضح كحاجب الرجل ، وإلا فيباح لها التهذيب حينئذ بنتا كانت أم زوجه على الراجح عندي . والله تعالى أعلم.
 

Post A Comment: