أثر غياب التوثيق والولي في صحة عقد زواج الأرملة البالغة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
![]() |
أثر غياب التوثيق والولي في صحة عقد زواج الأرملة البالغة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
السؤال : امرأة أرملة تبلغ من العمر ثلاثًا وخمسين سنة، وترغب في الزواج العرفي على أن يكون مكتمل الشروط الشرعية وصحيحًا، فهل يشترط في هذه الحال وجود
الجواب : بالنسبة للسؤال المطروح، فإنه يشتمل على جانبين:
الأول: مشروعية الزواج غير الموثق، والذي يُطلق عليه "العرفي".
الثاني: نكاح الثيب دون ولي.
وبدايةً نقول: لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالأسرة أيما عناية، من بداية تكوينها، مرورًا بوسائل استقرارها، وانتهاءً بأخلاقيات فضّها عند استحالة العيش. وهذه العناية من الشريعة تعود إلى أن الأسرة هي أساس المجتمع، فقوة المجتمع تنبع من قوة البنيان الأسري لأفراده.
الشق الأول: مشروعية الزواج غير الموثق
إن توثيق الزواج في العصر الحديث لم يُجعل إلا لظهور الغش والخداع والإنكار، فشُرع للحفاظ على حقوق المرأة وحقوق أولادها، فضلًا عن درء شبهة العلاقة المحرمة بين الرجل والمرأة، وتحقيقًا للأمن والسِّلم المجتمعي.
والتوثيق وإن كان لا يُعتبر ركنًا من أركان عقد الزواج ولا من شروط صحته، إلا أن ما يترتب على العقد من حقوق وميراث ونسب ومحرمية لا يتم إلا به. ووفقًا لقاعدة الفقهاء: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، أصبح التوثيق من واجبات العقد اليوم. وخلوّ العقد منه لا يُبطله، لكن يترتب عليه إثم التساهل والتهاون في حقوق الآخرين، لقول النبي ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه: رواه البخاري ومسلم).
وطالما كان توثيق الزواج ممكنًا، فلا مانع منه، بل الأولى الإقدام عليه. أما إذا اتُّخذ عدم التوثيق وسيلة لاستحلال ما لا يحل مع التوثيق، كمعاش الزوج أو الأب أو نحو ذلك، فإن عدم التوثيق حينها يصبح وسيلة إلى الحرام، وهو أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188].
الشق الثاني: زواج الثيب البالغة العاقلة الرشيدة بدون ولي
إن اشتراط الولي عند الفقهاء الأربعة له مقصد شرعي عظيم لا يتحقق بدونه، وهو حسن الاختيار للمرأة، وتولِّي عقد الزواج عنها، فيجنبها مظنة الابتذال وغشيان مجالس الرجال. فضلًا عن أن وجود الولي في العقد يحقق الاستقرار الأسري للمرأة، خاصة في المجتمعات التي تنظر إلى المرأة المتزوجة بدون ولي نظرة ازدراء وتحقير، وتعدُّ ذلك علامة على قلة الأدب وسوء التربية، لا سيما إذا كان وليها موجودًا، لقول النبي ﷺ: «لا نكاح إلا بولي» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
فالولي حماية للمرأة، لذا اعتبر رسولنا الكريم ﷺ أن المرأة التي تتزوج بدون ولي زواجها «باطل، باطل، باطل» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني). ولم يخص النبي ﷺ في هذا الحكم البكر دون الثيب، بل الخطاب عام. والمؤلم في حال المرأة التي تسلك هذا الطريق أنه إذا وقع بينها وبين زوجها نزاع أو مشكلة، فإنها لا تجد وليًا تلجأ إليه، وإنما تضطر إلى اللجوء مباشرة إلى السلطان لعدم وجود من يتولى أمرها.
وبالنظر في أقوال الفقهاء في هذه المسألة، نجد أن الجمهور اشترطوا لصحة الزواج وجود الولي مع المرأة، سواء كانت بكرًا أم ثيبًا. والفرق الوحيد بينهما هو في طريقة التعبير عن الإرادة والموافقة: فالبكر يكفي في حقها السكوت المقترن بعلامات الرضا، نظرًا لموطن حيائها، فهي لم تألف الرجال بعد، أما الثيب فتعبر عن رأيها صراحة؛ لأنها مرت بتجربة الزواج من قبل، وبالتالي لا تجد حرجًا في إبداء موافقتها بوضوح.
وقد استند الجمهور في اشتراط الولي إلى أدلة من القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232]، حيث الخطاب موجَّه للأولياء. ومنها حديث النبي ﷺ: «لا نكاح إلا بولي» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
أما السادة الحنفية، فمع أنهم وافقوا الجمهور في دور الولي وأولويته في عقد الزواج، إلا أنهم ذهبوا إلى أنه يجوز للبكر البالغة العاقلة الرشيدة أن تُزوج نفسها دون ولي، بشرط أن يكون الزوج كفئًا لها، وأن يكون مهرها مهر المثل. فإن لم يتحقق هذان الشرطان، كان للولي حق الفسخ ما لم يدخل بها الزوج أو تُنجب الأولاد. وإذا كان هذا الحكم في حق البكر، ففي الثيب البالغة العاقلة الرشيدة أولى بالجواز.
وقد استدل الحنفية على قولهم بآيات من كتاب الله، منها قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 234]، حيث أضاف الفعل إلى النساء أنفسهن، مما دلّ عندهم على أن للمرأة ولاية على نفسها في شأن النكاح. وكذلك قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232]، وفيه دلالة على أن النكاح أضيف إلى النساء، وأن نهي الأولياء عن العضل إنما يدل على أن الأصل أن لهن حقًّا في مباشرة العقد.
تطبيق الحكم على واقعة السؤال
وفي واقعة السؤال نقول: الأولى لهذه السيدة، إن كان وليها موجودًا، أن يعقد لها بنفسه. فإن كان غائبًا، أمكنه أن يُفوِّض غيره في العقد، أو أن يقوم به من بُعد عبر وسائل التواصل المعتبرة. وإن لم يكن لها ولي في المكان الذي تقطن فيه، فيمكنها أن تُقدِّم رجلًا صالحًا ليعقد لها العقد. فإن تعذَّر ذلك، أو عضلها الولي ومنعها من الزواج، وكانت في حاجة إلى التحصين، جاز لها أن تتولى العقد بنفسها، على ما ذهب إليه السادة الحنفية.
والله تعالى أعلى وأعلم.