الرجعة بين الفعل والقول.. رؤية فقهية وأبعاد أسرية | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
 |
الرجعة بين الفعل والقول.. رؤية فقهية وأبعاد أسرية | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
الرجعة بين الفعل والقول.. رؤية فقهية وأبعاد أسرية
( امرأة أفقه من مالك )
أ.د روحية مصطفى
الأسرة هي نواة المجتمع، واستقرارها غاية من غايات الشريعة الإسلامية، ومن أجل ذلك جاءت الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة محكمة ومتوازنة، بحيث تُبقي على الحياة الزوجية متى أمكن ذلك، وتمنح الفرصة للتراجع عن الطلاق الرجعي قبل أن يصبح بينونة.
ومن هنا، كان بقاء المرأة المطلقة طلاقًا رجعيًا في بيت زوجها خلال عدتها أمرًا إلهيًا يحمل في طياته حكمًا عظيمة، قال الله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1].
وذلك لأن وجودها في بيتها خلال هذه الفترة قد يكون سببًا في عودة الألفة والمودة بين الزوجين، فلا يكون الطلاق مجرد انفعال مؤقت، بل يظل الباب مفتوحًا لمراجعة القرار قبل فوات الأوان.
الرجعة بين اللفظ والفعل
من الأحكام التي تميز بها مذهب الحنفية في مسألة الرجعة أنها لا تتوقف على اللفظ فقط، بل تصح بالفعل أيضًا، كالجماع ومقدماته، دون الحاجة إلى تصريح الزوج بلفظ الرجعة. وهذا التوسع في مفهوم الرجعة يأتي في سياق التيسير، ومنع التسرع في إنهاء رابطة الزواج متى كان هناك مجال لإصلاحها.
بل إن الأحناف ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فقرروا أن الرجعة تصح حتى لو كان الزوج مكرهًا عليها، أو نطق بها مازحًا أو هازلًا أو مخطئًا، لأن الرجعة في حقيقتها استدامة لعقد النكاح، وما دام الفعل المختص به موجودًا، فإنه يغني عن اللفظ.
وقد قال الإمام الكاساني رحمه الله:"وَكَذَا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا وَجَادًّا وَعَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ، فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَاللَّعِبِ وَالْخَطَأِ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ."
كما قال أيضًا: "وَكَذَا إِنْ جَامَعَتْهُ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ."
وهذا الاتجاه الفقهي يعكس حرص الشريعة على تلمّس أدق سبب يمكن أن يُبقي على الأسرة ويحافظ على كيانها، خصوصًا في مسائل تعم بها البلوى، حيث قد يتردد الزوج في اتخاذ قرار الرجعة صراحةً، بينما يكون سلوكه العملي شاهدًا على رغبته الضمنية في استدامة الحياة الزوجية.
تجربة واقعية.. رجعة بفعل الزوجة
في أحد البيوت التي أوشكت جدرانها أن تنهار بفعل الطلاق، جلست امرأة تنظر إلى زوجها الذي طلقها طلاقًا رجعيًا الأولى أو الثانية ، بينما لم يبقَ على انتهاء عدتها سوى يوم واحد، كانت تعلم أن بقاءها في بيت الزوجية خلال العدة أمر شرعي، وأدركت أيضًا أن ذلك قد يكون فرصة لإصلاح ما فسد من العلاقة، لم تشأ أن ترحل قبل أن تمنح نفسها وزوجها فرصة أخرى، فالطلاق وإن كان شرعًا، إلا أن آخر العلاج الكيّ.
كانت تحاول أن تتقرب منه، أن تذكّره بالأيام التي جمعتهما، لكنه ظل جامدًا، صامتًا، مترددًا حتى اللحظة الأخيرة ، ومع اقتراب نهاية العدة، قررت أن تستغل ما بقي من الوقت قبل أن تُسدّ الأبواب نهائيًا ، فانتظرت لحظة سكونه عند القيلولة، ثم اقتربت منه في هدوء، وطبعَت قبلةً على جبينه، وكأنها تقول له دون كلام: أما آن لك أن تراجع قرارك؟ لم يعترض، لم يُبعدها عنه، بل بقي على حاله كأنه لا يريد لهذه اللحظة أن تنتهي ، مضى اليوم، وانتهت العدة، فانتفض فجأة كمن أفاق من غيبوبة، وأدرك أن وقت الرجعة قد انتهى، فشعر بندم يمزق قلبه، والتفت إليها قائلًا: "لقد انتهت عدتكِ.. فات الأوان!"
لكنها، بابتسامة واثقة، ردّت عليه بهدوء: "بل ما زلتُ زوجتك، لقد راجعتني."
اتسعت عيناه في دهشة وسألها: "كيف؟ متى؟"
قالت: "أما حين قبلتُك ولم تعترض، أليس ذلك إقرارًا منك؟ أليس في ذلك دلالة على بقاء المودة؟"
تردد قليلًا ثم سأل في حيرة: "وهل تصح الرجعة بالفعل ومن الزوجة دون لفظ مني ، وبدون أن أنوي ذلك؟".
فكان الجواب أن الرجعة عند الأحناف تصح بالفعل، كما تصح مع الإكراه، والهزل، واللعب، والخطأ، لأن الرجعة استدامة للنّكاح، والفعل المختص به أدل عليه من القول، خصوصًا في هذه المسائل التي تعم بها البلوى ، بل أجازو الرجعة بفعل الزوجة وسكوت الزوج مثل الحالة الواردة في المسألة .
الرجعة في سياقها الإنساني والاجتماعي :
لا تقتصر أهمية هذه الأحكام على الجانب الفقهي فقط، بل لها أبعاد اجتماعية ونفسية عميقة، إذ إن الطلاق ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو قرار يهزّ كيان الأسرة، ويؤثر على الزوجين والأبناء والمجتمع بأسره.
ومن هنا، نجد أن الشريعة وضعت ضوابط تحافظ على استقرار الأسرة، فجعلت الطلاق الرجعي فرصة لمراجعة الذات، كما أوجبت على المرأة البقاء في بيت الزوجية خلال العدة، وأباحت للزوج أن يراجعها بالفعل لا بالقول فقط، وكل ذلك من أجل منح العلاقة الزوجية فرصة جديدة للحياة.
الخلاصة : إن الأحكام الشرعية المتعلقة بالطلاق والرجعة تحمل في جوهرها بعدًا إنسانيًا واجتماعيًا، يعكس حرص الإسلام على استقرار الأسرة، ورغبته في تقليل حالات الطلاق التي قد تكون وليدة لحظة غضب أو انفعال.
ولهذا، فإن التوسع في مفهوم الرجعة، ليشمل الفعل إلى جانب القول حتة وإن كان من الزوجة ووجود مايدل على إقرار الزوج بذلك ، هو صورة من صور التيسير التي تتماشى مع روح التشريع الإسلامي، الذي يسعى إلى تقليل الهدم، وتعزيز البناء، والمحافظة على الروابط الأسرية بكل وسيلة ممكنة. والله تعالى أعلى وأعلم.