قراءة في قصيدة (اللا مهتدي) لهمام صادق عثمان | بقلم دكتور / جمال فودة أستاذ النقد والبلاغة عضو الاتحاد الدولي للغة العربية _ كاتب وناقد وأكاديمي مصري
 |
| قراءة في قصيدة (اللا مهتدي) لهمام صادق عثمان | بقلم دكتور / جمال فودة أستاذ النقد والبلاغة عضو الاتحاد الدولي للغة العربية _ كاتب وناقد وأكاديمي مصري |
النزعة الخطابية في شعر الشباب المعاصر
قراءة في قصيدة (اللا مهتدي) لهمام صادق عثمان
دكتور / جمال فودة
أستاذ النقد والبلاغة
عضو الاتحاد الدولي للغة العربية
كاتب وناقد وأكاديمي مصري
إن بنية القصيدة عند (همام صادق عثمان) تتضمن العديد من المضمرات النسقية التي تتعلق بنظرة الشاعر الخارجية لمجتمعه/ واقعه الذي تغلب عليه الصبغة الاجتماعية، وما تمثله من ضغط نفسي انعكس على شعره، ومن ثم يمثل الكشف عن هذه الأنساق استبطاناً يمنح النص ميزة التعدد القرائي والتأويل الفكري؛ مما يسهم في فهم الأبعاد المعرفية والنفسية للشاعر، لكن طغيان النزعة الخطابية غطى على قيمة النسق المضمر وفاعليته داخل النص الشعري.
يقول همام:
لا الجَدبُ يُعجِبُهُ ولا الأمْطارُ
رغمَ اتسِّاعِ فضائِهِ يَحتارُ
في كُلِّ بَحرٍ طاعنٌ بسِفينَةٍ
حَيّرى ولا يسُتكْملُ الإبحَارُ
فكأنَّ حاصلَ ضربِ ما قدْ عاشَهُ
في سيّرةِ اللَّا مُهتدي أصفارُ
طوَّافُ قُطرٍ لا يُفارقُ أرضَهُ
إن خيَّمَ الأقوامُ أو همْ طارُوا
يا مَنْ بَذرتَ بِكلِّ أرضٍ بذرَة
دُونَ العِنايةِ لا يُرى الإِثْمارُ
الطِّفلُ لا يسمُو إذا أهملْتَهُ
والحُلمُ ليسَ يُريكَهُ الإِقصَارُ
كملْ طرِيقَكَ إِنْ بدأتَ
وإنْ فشلتَ فلّاَ تدعْهُ
فليسَ ثمَّةَ عًارُ
لا تُلهينَّكَ كثرةُ الأهدافِ عنْ تحقِيقِها
لا تنفعُ الأعذارُ
كلَّ الَّذينِ بِجهدِهمْ صعدُوا الفَضا
بعدَ الولادَةِ زاحفونَ صِغارُ
جمِّعْ قوَاكَ فكلُّ سدٍّ زائلٌ
لوْ جاءَ يجمعُ شملَهُ الإعْصارُ
اجعلْ حواجِزَكَ الضِّعافَ وسيلةً
لِتكونَ أعْلى فالزمانُ يُدارُ
كمْ فاشلٍ مِنْ قبلُ صارَ مُعظَّمًا
وكذاكَ ينفعُ أهلَهُ الإصرارُ
لو لمْ يكنْ قلبُ الخليلِ مُجاهدًا
ما قيلَ إذ ألقَوا بهِ (يا نارُ...)
شاهدتُ طفلًّا قدْ تعثَّرَ مشيُهُ
والآنَ ينظرُ لي وهُوَ طيَّارُ
في القصيدة السابقة نلاحظ أن جرس الألفاظ له دور كبير في إثارة الانفعال النفسي؛ لأن الإيقاع الداخلي للألفاظ والجو الموسيقي الذي يحدثه عند النطق بها يعد من أهم المنبهات المثيرة للانفعالات الخاصة، وفي هذه القصيدة ينثال الشعر المتدفق حيوية عن نفس ثائرة؛ فنحسُّ فيه بحرارة أنفاس الشاعر الرافضة للاستكانة، والثورة على السلبية والاتكالية، والدعوة للتحرر من الانهزامية، وطي صفحة التيه والضياع التي آن لها أن تٌمزَّق من دفتر حياته.
لكن الإفراط في الاعتماد على النزعة الخطابية يجنح به إلـى التقريـر والمباشرة، لا إلى الإيحاء والدلالة؛ خاصة عندما تعلو النبرة الخطابية في النص فيفقد جزءاً كبيراً من الإثارة التي تتولد مع استكشاف آفاق جديدة لأبعاد التجربة الشعرية.
فنلاحظ توالي أسلوبي الأمر والنهي (كملْ طرِيقَكَ، لا تدعْهُ، لا تُلهينَّكَ، جمِّعْ قوَاكَ، اجعلْ حواجِزَكَ ...)
وكلها تدور في فلك استنهاض الهمم وبث الأمل في نفوس غمرها اليأس، حيث تدور الدلالة حول محور التغيير ـ بكافة أشكاله ـ والذي يعد من المحاور الأساسية في شعر (همام) من خلاله يحيى الموات بالتوجه إلى منطقة الأمل بكل فاعليتها التفاؤلية، وبكل منطلقاتها الاجتماعية والنفسية، فهو يعمل على تجميع فكرة تحرير الذات من معتقداتها الباطلة، في بؤرة مؤثرة تعمل على تغيير الواقع بفاعلية تنبع من الواقع النفسي الذي يرسف في أغلال السلبية، وليس ثمة عار أبداً مهما كانت النتيجة!
كملْ طرِيقَكَ إِنْ بدأتَ
وإنْ فشلتَ فلّاَ تدعْهُ
فليسَ ثمَّةَ عًارُ
لقد استطاع (همام) أن يوازن بين قوالب الصياغة الموروثة للنداء، والرغبة الملحة في الإبداع الخاص، وإنتاج الإيحاءات والتوقعات الجديدة، باستخدام الصيغة على نحو يتيح لها إنتاج دلالات تركيبية تجسد حالة نفسية خاصة يعيشها الشاعر.
يا مَنْ بَذرتَ بِكلِّ أرضٍ بذرَة
دُونَ العِنايةِ لا يُرى الإِثْمارُ
هذا وإن كان الشاعر لا يهدف من وراء النداء لاستدعاء الأشياء على مستوى القول ليعلن موقفه تجاهها، وإنما يستحضرها لدواع ٍأخرى، في محاولة لإدراك ما يمكن إدراكه، وإلقاء حجر في المياه الراكدة ليحركها، وبعث المقاومة في نفس جرفها اليأس.
إن الشاعر هنا يركز على توصيل الفكرة؛ لذلك يعتمد على رصد الحقائق البعيدة عن الغمـوض والإيحاء والغرابة بلغة يسودها الوضوح والاستدلال بالمنطق.
ولقد برزت ظاهرة التكرار بشكل واضح، وأخذت عدة مظاهر للحضور خلال النص الشعري، فمنها تكرار الحروف (حيث تكرر حرف الراء ـ قافية القصيدة ـ 31 مرة)، وتكررت (لا النافية) 7 مرات، وتكررت (لا الناهية) مرتان، وتكرر (ضمير الغائب) 13 مرة، وتكرر (ضمير المخاطب) 6 مرات، وتكررت (أدوات الشرط) ـ جازمة وغير جازمة ـ 6 مرات.
إن اختيار الشاعر للألفاظ يأتي في ضوء إحساسه بمعانيها وإيحاءاتها، وطبيعة العلاقة التجاورية للألفاظ بعضها ببعض، مما يؤدي - في النهاية - إلى كشف الجوانب الكامنة في اللغة الشعرية، كما يكشف عن عوامل الربط بين هذه الظواهر التكرارية وبين البناء الشكلي للعمل الفني.
ومن ثم جاء ضمير الخطاب الذي تكرر (6 مرات)؛ ليؤدي دوره في تشكيل الدلالة، حيث تخرج الذات الناطقة عن حالة الإفضاء الداخلي (في غيبة مخاطب حقيقي حاضر في النص) فتنتقل من توجيه خطاب ضمني / محتمل إلى خطاب حقيقي ملموس، تستحضر فيه مخاطباً تلقي إليه برسالتها وتتحاور معه.
ومن أشكال التكرار في قصيدة " اللا منتهي" ما يسمى بـ (الترديد)، وهو استخدام الشاعر لفظة متعلقة بمعنى، ثم يرددها بعينها ويعلقها بمعنى آخر في بقية السطور الشعرية، ويعد التكرار بالترديد من الأساليب، التي تتميز بقدرتها على ترتيب الدلالة والنمو بها تدريجياً في نسق أسلوبي يعتمد على التكرار اللفظي.
( لا الجَدبُ يُعجِبُهُ ، ولا الأمْطارُ ، لا يسُتكْملُ الإبحَارُ ، لا يُفارقُ أرضَهُ ، لا يُرى الإِثْمارُ ، لا يسمُو ، لا تنفعُ الأعذارُ ).
لقد تخلل حرف النفي ( لا ) أجزاء المقطع السابق لينفي عن الوجود كل مظاهر الخنوع والخضوع ، ولعل الشاعر أراد بتوزيع حرف النفي على هذا النسق المتفاوت المواقع ، أراد التركيز ـ موسيقياً ـ على هذه الحروف المتتالية كأداة ربط نغمي.
الأمر الذي يضع بين أيدينا مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر في أعماق اللاشعور، إذ إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي، وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.
المُلاحَظ أن (همام) إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتريه يهدف إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي، إذ ينزع إلى إبراز إيقاع درامي سيكولوجي.
فتجده في قصيدته التي مازتها صفة الخطابية يبتعد عن الإغراب في اللفظ مفـضلاً الألفـاظ السهلة الواضحة، والصورة التي يقرب فهمها خضوعاً لمقتضيات الدلالة، واستجابة لطبيعة الموقف، وكأنه في تراوح بين التصوير والتقرير، بهذا الشكل يجذب المتلقي، فينشغل ذهنه بالصورة، ثم يقرر ما يهـدف إليه كاشفاً في ذلك عن قدراته الفنية.