دليل تصحيح أخطاء المحرم في منى | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
 |
دليل تصحيح أخطاء المحرم في منى | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
تُعد منى من المناسك العظيمة التي يقف فيها الحاج شاهدًا على تعظيم شعائر الله، وهي موطن المبيت ورمي الجمرات، وموضع الإكثار من الذكر والدعاء في أيام معدودات. وقد بيّن النبي ﷺ بفعله وقوله كيفية أداء المناسك فيها، ووجّه الأمة لهدي التيسير والانضباط. لكن كثيرًا من الحجاج – عن جهل أو تقليد – يقعون في أخطاء تُخلّ بالكمال، أو تجرّ إلى المخالفة. وفيما يلي بيان أبرز هذه الأخطاء، مع تصحيحها وبيان الوجه الصحيح المستند إلى السنة.
الخطأ: ترك الجهر بالتلبية عند الإقامة في منى وأثناء رمي الجمرات، حيث يمر الزائر بأفواج من الحجاج لا يكاد يسمع منهم ملبّيًا.
الصواب: الجهر بالتلبية من السنن المؤكدة، وخصوصًا في منى، حيث يُستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها للرجال، ما لم يشق عليهم، تأسّيًا بالنبي ﷺ الذي لبّى حتى رمى جمرة العقبة ، قال ﷺ: «أفضل الحج العج والثج» الترمذي بإسناد صحيح ، والعج: رفع الصوت بالتلبية ، كما جاء في الحديث: «ما من ملبٍّ يُلبي إلا لبّى من عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر...» الترمذي بإسناد صحيح ، "والثج"، وهو ذبح الهدي والأضاحي، وإراقة دمائها وسيلانها، وقيل: إنه يريد بذلك كل أفعال الحج من أولها إلى منتهاها؛ لأنها تبدأ بالذكر والتلبية، وتنتهي بالذبح والهدي؛ فذكر الحدين ليشمل ما بينهما من أعمال، كأن كل أعمال الحج عظيمة وجليلة وينبغي إتمامها .
الخطأ: الذهاب مباشرة إلى عرفات يوم الثامن من ذي الحجة، دون النزول والمبيت في منى.
الصواب: المبيت بمنى في يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة) سنة مؤكدة، وليس واجبًا على الراجح من أقوال أهل العلم وهو مذهب السادة الأحناف ، لذا لا يُلزم من تركه بدم، لكن فاته فضل عظيم ومخالفة لهدي النبي ﷺ ، قد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ نزل بمنى يوم التروية، وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم خرج إلى عرفة بعد شروق الشمس، وقال: «خذوا عني مناسككم» [رواه مسلم].
الخطأ: جمع الصلوات في منى يوم التروية أو أيام التشريق.
الصواب: المشروع للحاج في منى أن يقصر الصلاة الرباعية (الظهر، والعصر، والعشاء) بدون جمع، فيصلّي كل صلاة في وقتها، كما فعل النبي ﷺ في منى، فقد كان يقصر الصلاة ولم يجمعها، رغم كونه مسافرًا ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "صلّيت مع النبيِّ ﷺ بمنى ركعتين، ومع أبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته" متفق عليه .
الخطأ: التفريط في السؤال عن حدود مِنى، والمبيت خارجها دون تحقق أو ضرورة.
الصواب: يجب على الحاج أن يتحرّى المبيت داخل حدود مِنى، وأن يسأل القائمين على الحملة أو الجهات المختصة إن لم يكن على علم بالحدود؛ لأن المبيت في منى واجب من واجبات الحج، وتركه دون عذر يُلزم الحاج بدم (ذبح شاة).
تنبيه: كثير من الحملات تنزل خارج منى – خاصة في العزيزية أو مناطق قريبة – بحجة الزحام، وهذا لا يُسقط الواجب، ويجب التنبه لذلك، والسعي للمبيت في المكان الصحيح داخل حدود منى ، الدليل: قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن ترك المبيت لغير عذر فعليه دم، لا نعلم في هذا خلافًا" .
الخطأ: إضاعة الأوقات في منى بما لا يُفيد؛ ككثرة اللهو، أو الانشغال بالمحادثات الدنيوية، أو الترفيه الزائد، أو متابعة ما لا ينفع عبر الهواتف.
الصواب: ينبغي أن يحرص الحاج على استثمار أيام منى في ذكر الله، والدعاء، وتلاوة القرآن، وتعليم الآخرين، والتفكر في النعم، ومراجعة النفس؛ فهذه الأيام هي "أيام التشريق" التي قال فيها رسول الله ﷺ: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» [رواه مسلم].
الخطأ: عدم الالتزام بالنظافة الشخصية أثناء أيام منى، مما يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة والتسبب في أذى الآخرين، وظهور أمراض أو عدوى.
الصواب: يجب على الحاج المحافظة على نظافته الشخصية بقدر المستطاع، والحرص على استخدام الماء والصابون غير المعطر للوضوء والاستحمام، وغسل اليدين، وارتداء ملابس نظيفة ، فيجب أن نجعل من الحج سلوكًا راقيًا يظهر فيه جمال الإسلام في تعاملك مع نفسك ومع الآخرين، فالنظافة جزء من العبادة، وأدب من آداب الطريق والرفقة .
أما مايخص الأخطاء المتعلقة برمي الجمار فهي :
الخطأ: توكيل بعض الحجاج الأقوياء غير العاجزين في رمي الجمرات، رغم قدرتهم على أداء النسك بأنفسهم.
الصواب: الأصل أن الحاج يرمي الجمرات بنفسه ما دام قادرًا؛ لأن الرمي من شعائر الحج العظيمة التي شُرعت لإظهار الانقياد والتعظيم، ولا يجوز التوكيل فيها إلا لعذر معتبر ككبر السن، أو المرض، أو الضعف الشديد، أو الخوف من الزحام المؤذي، {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ} [الحج: 32] .
الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج عدم جواز رمي الجمار قبل الزوال مطلقًا في أيام التشريق، دون علمٍ بوجود خلافٍ معتبر بين أهل العلم في المسألة.
الصواب: الأصل أن وقت رمي الجمار في أيام التشريق (11، 12، 13 من ذي الحجة) يبدأ بعد زوال الشمس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء (المالكية، الشافعية، والحنابلة)، مستدلين بحديث جابر رضي الله عنه: "كان النبي ﷺ يرمي الجمرة إذا زالت الشمس" – رواه مسلم.
ومع ذلك، فقد ذهب الحنفية إلى جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر (الثاني عشر)، بل أجازوه في سائر أيام التشريق عند وجود عذر كمرض، أو زحام شديد يخشى معه الضرر، نبغي للحاج أن يعلم الخلاف الفقهي في هذه المسألة، وأن يلتزم بالرمي بعد الزوال إن تيسر له ذلك، اقتداءً بهدي النبي ﷺ، فإن اضطر إلى الرمي قبل الزوال لوجود عذر معتبر، فلا حرج عليه، خاصة إذا أخذ برخصة الحنفية.
الخطأ: اعتقاد بعض الحجاج أن الجمرات تمثّل الشياطين، فيقومون برميها بالأحذية أو الحجارة الكبيرة، ويصاحبون ذلك بالسباب والشتم، ظنًا منهم أنهم يطاردون الشيطان أو ينتقمون منه.
الصواب: رمي الجمرات عبادة تعبدية محضة، شرعها الله تعالى تذكيرًا بعداوة الشيطان وانقيادًا لأمر الله، وليست موجهة إلى شيطان حقيقي ولا موضعًا للانتقام، وإنما الغرض منها الامتثال والاقتداء بسنة النبي ﷺ. وقد رمى رسول الله ﷺ الجمار بحصى صغار كحصى الخذف، ونبّه أمته بقوله: «بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين».النسائي بإسناد صحيح ، فلا يجوز رميها بالأحذية أو الحجارة الكبيرة، ولا يشرع سبّها أو شتمها؛ لأنها ليست إلا مواضع عبادة، وتعظيم شعيرة الرمي يكون بالهدوء، والانضباط، والتسليم لله، لا بالغلو أو الإساءة. فالرمي تذكير لا انتقام، وتعظيم لا تهجم، ومن تعبد الله بغير هدي نبيه فقد أخطأ في القصد والطريقة.
الخطأ: قيام بعض الحجاج بتكسير الحصى من الجبال، أو اختيار الحصى الكبيرة، أو غسل الحصى قبل الرمي، اعتقادًا منهم أن ذلك أنظف أو أفضل تعبديًا.
الصواب: المشروع أن تكون حصى الجمرات بحجم حبة الحمص أو البندق تقريبًا، كما ورد عن النبي ﷺ، حيث رمى الجمار بمثل حصى الخذف، أما تكسير الحصى من الجبال فلا حاجة إليه، ويكفي أخذ الحصى من أي موضع مباح. وأما غسل الحصى فليس من السنة، ولم يفعله النبي ﷺ ولا أصحابه، بل هو من البدع التي ينبغي اجتنابها، إذ العبادات تُبنى على الاتباع لا على التحسين العقلي ، فالرمي عبادة يُقصد بها الامتثال لا التنظيف، والزيادة على هدي النبي ﷺ لا تُقرب إلى الله بل تُبعد عن السنة.
الخطأ: يظن بعض الحجاج أن الحصاة لا تُجزئ إلا إذا أصابت العمود الموجود في وسط المرمى، بينما يتهاون آخرون في التأكد من وقوعها داخل الحوض، فيرمون دون عناية، وقد لا تقع الحصاة في المرمى أصلًا.
الصواب: لا يُشترط لصحة الرمي أن تُصيب الحصاة العمود القائم، فهذا العمود إنما وُضع علامةً لتحديد مكان الحوض، وليس هو المقصود بذاته، وإنما العبرة في الرمي أن تقع الحصاة داخل المرمى (الحوض الدائري) ولو لم تُصِب العمود، وعلى النقيض، لا يُجزئ الرمي إذا لم تقع الحصاة في الحوض، حتى لو رُميت بقوة أو بُذل فيها جهد، فمن لم تقع حصاته داخل المرمى فعليه الإعادة حتى يُوقن أنها وُقعت في الموضع المشروع، وهذه عبادة لا تُبنى على الظن أو الإهمال، بل على التحقق واليقين.
الخطأ: أن تظن بعض النساء أن لهن التوكيل في رمي الجمرات لمجرد كونهن نساء، دون تحقق عذر شرعي يبرر ذلك، كالمشقة الشديدة أو الخوف غير المحتمل.
الصواب: الأصل أن المرأة – كالرجل – تُكلّف برمي الجمرات بنفسها إذا كانت قادرة وآمنة. ولا يجوز لها التوكيل لمجرد أنها امرأة، إلا إن وُجد عذر معتبر كمرض، أو كِبر سن، أو خشية أذى لا تحتمله، أو ضعف ظاهر، وقد ثبت أن النبي ﷺ لم يُرخّص للضعفة من النساء – كسَودة بنت زمعة – في التوكيل، بل أذن لهم بالرمي في وقت يُخفف عنهم الزحام، وهو بعد منتصف الليل، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين ، فتأخير الرمي إلى الليل رخصة ثابتة عند الحاجة، وهو أولى من التوكيل، ومن السُّنة أن تسعى المرأة إلى أداء النسك بنفسها ما دامت قادرة على ذلك؛ تعظيمًا للشعائر واقتداءً برسول الله ﷺ.
الخطأ: رمي حصى الجمار جميعًا دفعة واحدة.
الصواب: يجب على الحاج أن يرمي الجمرات سبع حصيات متفرقات، واحدة بعد الأخرى، كل حصاة مستقلة تُرمى بمفردها، ويُكبر مع كل رمية ، فإذا رمى الحصيات جميعًا دفعة واحدة، فإنها لا تُجزئ إلا عن واحدة فقط، ويكون قد ترك ستًّا من واجبات الرمي، ويلزمه إعادة الرمي إن أمكن، أو الفدية إن فات وقت الرمي ولم يُعده ، فقد ثبت أن النبي ﷺ رمى الجمار سبعًا سبعًا، يكبّر مع كل حصاة، وقال: "خذوا عني مناسككم" [رواه مسلم].
الخطأ: رمي أكثر من سبع حصيات عند كل جمرة، ظنًّا أن ذلك زيادة في الخير أو احتياطًا.
الصواب: السنة أن يرمي الحاج سبع حصيات فقط عند كل جمرة من الجمرات الثلاث، ويكبّر مع كل رمية ، والزيادة على هذا العدد مخالفة للسنة، ولا تُعدّ عبادة، بل قد تكون بدعة، لأن العبادة توقيفية لا تُزاد ولا تُنقص إلا بدليل.
الخطأ: رمي الجمرة الصغرى والوسطى يوم العيد (يوم النحر – 10 ذو الحجة)، مع أن هذا اليوم لا يُرمى فيه إلا جمرة العقبة الكبرى.
الصواب: في يوم العيد، الواجب هو رمي جمرة العقبة الكبرى فقط، بسبع حصيات متعاقبات، يكبّر مع كل حصاة. أما الجمرة الصغرى والوسطى، فلا يُشرع رميهما إلا في أيام التشريق (11 و12 و13 من ذي الحجة)، فقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم في صفة حج النبي ﷺ:«فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الجَمْرَةَ الَّتِي عِندَ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ" ولم يُذكر في يوم العيد رمي غيرها.
الخطأ: الاستمرار في التلبية بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر.
الصواب: السنة أن يقطع الحاج التلبية بعد رمي جمرة العقبة الكبرى يوم العيد (10 ذو الحجة)، ولا يشرع له الاستمرار بها بعدها؛ لأن التلبية تنتهي برمي هذه الجمرة ، فعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال:" أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات... حتى رمى جمرة العقبة، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" متفق عليه .
الخطأ: الإصرار على الرمي في أول الوقت بعد الزوال مباشرة يوم العيد وأيام التشريق، رغم شدة الزحام، وتجاهل التيسير الذي جاءت به الشريعة.
الصواب: الأفضل أن يرمي الحاج في الوقت الذي يخف فيه الزحام، ما دام الوقت ممتدًّا من زوال الشمس إلى طلوع الفجر من الليلة التالية عند كثير من أهل العلم، وخاصة إذا ترتب على الزحام أذى أو خطر، وقد رخّص النبي ﷺ للضعفة من أهله أن يرموا ليلاً، فدلّ على امتداد وقت الرمي وسعة الشريعة، ويدخل في حكمهم اليوم كبار السن، والنساء، والمرضى، وكل من يخشى الزحام الشديد، الدليل: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها رمت الجمرة بعد غروب القمر ليلة النحر، وقالت: "كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله ﷺ" مسلم .
والله تعالى أعلى وأعلم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات